العام 1920 نشأ لبنان لا ليكون وطناً بقدر ما نشأ ليكون «ساحة»، وليست سنة الاستقلال في العام 1943 إيذاناً بالدولة الجديدة، بقدر ما كان تاريخاً يحتفل به اللبنانيون، فليس من المعقول أن يكون ثمة بلد ما لا تحتوي أدبياته السياسية على عيد وطني يحتفل فيه مواطنوه، ولو كان «كذبة»! والكذبات في تاريخنا العربي لها احترامها المعهود.
وطبعاً، كانت الطائفية «عرفاً» هي عماد هذه الساحة المتوترة، وشرارة اشتعالها كلما أراد أحد ما إشعالها، حتى أتى اتفاق الطائف 1989 ليؤسس الطائفية «نصاً» بعد أن كانت «عرفاً» لا جدال عليه، فـ «نص» الطائف كان حكماً شرعياً للساحة المسماة بـ «لبنان» بأن تستوعب هويتها الحقيقية وأن تحترمها.
الحرب الدائرة في لبنان تجاوزت الحدود، وتخطت كل ما كان يكتب في أيامها الأولى، لا نتذكر من الجنديين الأسيريين شيئاً، وأصبح اسم «سمير القنطار» عصياً على التذكر. لبنان «الساحة» في مفصلية أكثر حدية هذه المرة، أكثر إيلاماً طبعاً، لكنها أكثر تعقيدا من الناحية السياسية أكثر.
سأحاول في هذه النقاط ان استعرض الكثير من الأفكار والقراءات المتخالفة بشأن ما يجري في لبنان، آملاً أن يكون تخالف الأفكار إثراء للفهم ولمعقولية ما يجري في لبنان.
- أكثر ما يجعل من هذه الحرب أسطورية، هو أنها تدور بين «دولة» و«حزب» (وليد نويهض)، وهذا ما يجعل الأمم المتحدة أمام قضية ذات نوعية خاصة لا تنشأ إلا في وضع ينتجه لبنان «الساحة» المعقدة والمركبة، إن أي حوار عن هذه الأزمة مع الحكومة اللبنانية ممثلة بالرئيس السنيورة هو حوار منتقص الفاعلية، فالحكومة التي صرحت بأن لا علاقة لها بما جرى هي بالضرورة لا تملك أي صلاحيات - وفق نظام الساحة اللبنانية - في إجبار حزب الله على الالتزام بأي اتفاق تعقده، كما أن نصرالله حصر التمثيل الرسمي لحزب الله بدلو الرئيس «نبيه بري» فقط.
بات من المؤكد أن أزلى ضحايا هذه الحرب هي الحكومة اللبنانية، فحزب الله لا يتهاون في خلق فرص الإطاحة بحكومة السنيورة والتي من الواضح انها كانت سلبية في التعاطي مع الموقف بمسئولية. ولابد لنصرالله من ان يعمل عليها نظام المحاسبة الذي سعت هي إلى ترويجه، سواء عبر خطابها الرسمي ممثلاً بالرئيس السنيورة، أو عبر رئيس كتلة المستقبل سعد الحريري.
- يمثل حزب الله شريحة اجتماعية لبنانية لا يمكن الاستنقاص منها، أو التنبؤ بأنها قابلة للضمور السياسي سواء في الداخل اللبناني أو خارجه، فالأهداف التي تعلنها «إسرائيل» والتي تتمحور حول محو حزب الله عسكرياً وبالتالي سياسياً هي مجرد خيالات لا أهمية لها، فليست المرة الأولى التي تقصف فيها بيروت، وليست المرة الأولى التي تهدم بنى لبنان التحتية انتقاما وطمعا في نحر المقاومة، لكنها كانت ومازالت معادلة أصعب من أن تحل بطريقة فردية، فثمة فاعلون إقليميون لهم أجندات مغايرة، وهم مستعدون بالتأكيد لتقديم ما يلزم لتبقى معادلاتهم قائمة.
- لن يجلس نصرالله على مائدة الحوار الوطني اللبنانية باحثاً عن العفو من شركائه السياسيين، فالمعادلة اللبنانية لا تدار بهذه الطريقة، ولن تكون هذه الحرب ذات تأثير كبير في ضمور قوة حزب الله السياسية الداخلية، قد تكون ذات تأثير قصير على قوته السياسية، إلا أن القوى الإقليمية التي تقف خلف حزب الله وبالخصوص «إيران» لن تسمح البتة بأن يفرط حزب الله بمكانته السياسية في لعبة الساحة اللبنانية وتجاذباتها.
حزب الله والذي يتسلم سنوياً موازنة وقدرها 700 مليون دولار أميركي، وفي بعض التقارير الأخرى 200 مليون دولار، لن يستحي في إشراك إيران في فاتورة إعادة إعمار الحزب، كما ان ترسانة عسكرية بديلة ستصله بأية طريقة كانت.
- لا يمكن أن تعتقد «إسرائيل» أن باستطاعتها إنهاء حزب الله عسكرياً، والتوغل البري مهما كان مؤثراً في تقويض قدرات الحزب، فإنه لن ينهيه. المشهد العسكري يذهب إلى أن حزب الله لا يمتلك جيشاً نظامياً ثقيل الحركة. ولا يمتلك الحزب عاصمة سياسية، وليست بيروت نفسها عاصمة للحزب، ببساطة، يستطيع حزب الله ان يستوعب أي تقدم إسرائيلي في الجنوب اللبناني، لحدود ما قبل الانسحاب الإسرائيلي في العام 2000 وربما أكثر من ذلك. يستطيع لا الحزب الانتشار بقواته على كامل الدولة اللبنانية وفي فترة قياسية. وعلى «إسرائيل» عندها ان تحارب الهواء!
المشهد هنا لا يزيد عن أن «إسرائيل» - لو حاولت اجتياح مسافات كبيرة من الجنوب - تعيد التاريخ للوراء، وذلك بوقوعها في المستنقع اللبناني، وهي تتذكر جيداً قتلاها في جنوب لبنان. وهي لن تسطيع أن تتحمل الرأي العام الدولي، وعندها ستكون مقاومة حزب الله لها، بل مقاومة جميع الأطياف اللبنانية لوجودها العسكري داخل الأراضي اللبنانية مقاومة شرعية، وستفقد «إسرائيل» وهجها الدولي الذي بدأته بدعاية الاعتداء اللبناني على أراضيها وخطف لبنان لجنديين وقتله لخمسة آخرين.
- أتت دعوات «المحاسبة» لمن تسبب بالحرب، والتي روجتها بعض القوى السياسية وخصوصاً قوى 14 آذار لتحاول ضمنيا محاصرة حزب الله، إلا أن تصريحات حزب الله لقناة «الجزيرة» كشفت عن أن ثمة ارتداداً عكسياً لحزب الله بعد انتهاء الحرب مع «إسرائيل» لتفعيل قانون «المحاسبة» في داخل لبنان، ولعب نصر الله بورقة محاسبة تاريخية موجعة، تتعلق بممارسات السلطة السياسية اللبنانية بمشاركة شتى الأطراف خصوصا قوى 14 آذار منذ العام 1989 حتى 2005 للسوريين في خنق لبنان ونهب ثرواته، فالقصور والفلل والحسابات المصرفية المتضخمة لم تأتِ من السماء فجأة، لابد وأن يحاسب نصرالله من تركوه وحيداً، فالأعذار التي ساقتها الحكومة اللبنانية لم تقنعه، فهو يعود إلى البيان الوزاري للحكومة اللبنانية والذي يشير إلى ضرورة استمرار المقاومة حتى إعادة باقي الأراضي المحتلة واسترجاع آخر أسير لبناني.
- العلاقة التاريخية والاستراتيجية بين حزب الله وإيران ستستمر وستزداد فاعلية بعد انتهاء العمليات العسكرية، وهذا أمر طبيعي، فالفاعلون السياسيون في الساحة اللبنانية دائما ما ينشطون مع التوترات السياسية، فالسعودية ومصر ترميان بثقلهما لصالح اللبنانيين السنة، وفرنسا تضغط مع القوى المسيحية، وللشيعة أن يتحالفوا مع سورية وإيران، ولا فضل لأحد على أحد.
- الولايات المتحدة، والتي فشل مشروعها في العراق والذاهب إلى شرق اوسط جديد، تحاول هذه الأيام إعادة تسويقه من جديد، إلا أن الآلية «مبهمة»، مضافاً لها أن الأداء الضعيف للخارجية الأميركية - في ظل بقاء مدللة البيت الأبيض «كونداليزا رايس» - سيفضي بالتأكيد لفشل المشروع الأميركي في لبنان، فالوضع اللبناني الأكثر تعقيداً من الداخل هو في واقع الحال أكثر صعوبة من إدارة الملف العراقي، والذي لا تبلي فيه الولايات المتحدة البلاء الحسن
العدد 1418 - الإثنين 24 يوليو 2006م الموافق 27 جمادى الآخرة 1427هـ