العدد 3633 - الجمعة 17 أغسطس 2012م الموافق 29 رمضان 1433هـ

مساحة حرة - كَيف ينتحرُ الآَدميُّون؟


لربما كانت هي المرةَ الأولى التي أتيقَّنُ الإجابةَ فيها عندما سألني أحدُ الإخوَة عن أفضل سُبُل الانتحار، مُتعةً، راحةُ، وإلهاماً للآخرين. ولربما كانت الإجابة دبلوماسية جداً حين نزعت أفكار مشاركة طلبة يابانيين في انتحار جماعي عبر بث مباشر لملايين من هواة الانتحار، ونصحته - في اللهِ - أن لا يقرأ!
بدون إسهاب وإطناب فالمسألة قصيرة والليل طويل، فأيها الميت لا تقرأ وكن كمجتمعك. كن كمجتمع تنتحر فيه العقول زرافاتٍ ووحداناً منذ سقوط بغداد وإيقاف الخليفة جزيل عطائه وحصره في ما يدعم ملكه الإلهي - بالإضافة طبعاً للجواري وما يتبعهنَّ من خصورٍ ونهود. مجتمع جُرَّ جراً كالأنعام فإما أن يقرأ في صفحات وجه السلطانِ تاريخَه ودينَه وفلسفتَه وكيف يضاجعُ زوجَه، أو أن يمشي خلالَ النوم حاسر الرأس حافيَ القدمين.
مجتمع يقف على قدميه مُعجباً بماتادور إسباني إذ يغرسُ رمحَه في ثورٍ يشبهه، يجذبه مسلسل أُنتجَ لسرقة جيبه، تؤرقه راقصةٌ عاريةٌ باسم الفن، يهمُّه شراءُ وريقاتٍ لعاداتِ ديانةٍ إفريقية وجدت مكدَّسةً لدى رحالةٍ برتغالي استقرَّت به النَّوَى في جبالِ التبت. ولا يقرأ إلا في دقائق معدودات سنوياً يوسمها بنوبات القراءة.
وإنه لمن المضحكِ المبكي أن يستعدَّ لهذه الدقائقِ الموسميَّةِ بشراءِ عشراتِ الكتب، وبناء مكتبة عظيمة في المنزل عادة ما تكونُ في مجلس الضيوف كي يعجب بها غيره - وقد يرفضُ إعارتها؛ فكأنما القراءةُ أصبحت ديكوراً شأنها شأن القماشِ الكشميريِّ أو الخناجرِ العمانية.
إن الحديثَ لذو شجون، والواقع مُرّ مهما حاولنا طلاءَه بزيتِ الزيتون. فكيف يقوى عقل أن يوافقَ بين قولِه تعالى "قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" (الزمر: 28)، وعدم مقدرةِ الكثيرينَ منَّا ومن آبائنا وأبنائنا على قراءةِ القرآنِ قراءةً مجردة، تذوق نهجِ البلاغة أو فهمِ خطبِ الجمعة. ولم أتمثل بالقرآن للتدليل نحوياً أو صرفياً فالمعجزُ الكامنُ وراءَ المعجزِ اللفظيِّ أعظمُ منه، ولعلَّ قوله تعالى "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (محمد: 24) توفي المعنَى المُراد.
إذ ان التدبُّرَ في القراءة يلبسُنا تجاربَ الآخرين، يكسبنا أعمارَهم، يمكننا في لحظاتٍ من طوي مراحل هم ساروا فيها سيرَ السلاحف؛ فيبني الفرد نفسه، وتبني الأنفسُ - حثيثةَ الخطى - المجتمع. وانتحار الفرد على حساب استكانةِ شايٍ أو سيكارةٍ أو سمرٍ حول خشبٍ محترق؛ يؤدي بانتحار حضارةٍ عربيةٍ عريقةٍ على حسابِ إبريق شاي كبير تغليه حرائقُ غابات أستراليا ويدخنه السيكار الكوبي. ولعمري، ما نستفيد من هذه الأمور إلا حرارةً في أجسادِنا فكأنما الحرارةُ تنقصُ أنفاسَنا أو ينقص ريقَنا التصحر!
إن للحياة وجهاً غير المادي، ذا وجنتينِ خجلتينِ كعذراءٍ في ليلةِ الدُّخلةِ، لا يقتلُ الناسَ إن لم يغيروا عقيدةً ورثوها إلى عقيدةٍ هو ورثها، ولا يرى تأخرَ النقل العام معضلةً من علاماتِ الظهور. فلماذا نصرُّ على رؤيةِ وجهِ الحياةِ العابسِ الإقطاعي الذي أمسى يزورنا حتى في أحلامنا؛ سواءً كان على صورةِ الحاكم أم المطالب بإيجارِ "قرقور" قد نسكن فيه.
وإن؛ فمتى تُهدى الكُتُبُ مُهوراً في مَقامِ الذهب، دليلاً للحبِ في أعيادِ الزواج، تهنئة بقدوم المنتحرين الجدد، عند تفوقهم، عند تخرجهم، أو كشيء مفيدٍ لهم - دخيلبالله!. ومتى يستعين بها الحكامُ ومن لف لفهم المترفَ على خطبهم الساقطة - نصاً وتمثيلاً وإخراجاً - بدلاً من موائدهم الفارهة، حفلاتِ الرقصِ بين شرقيةٍ وغربية، شهاداتِ الدكتوراه الفخرية.

حسين بوصفوان
 

العدد 3633 - الجمعة 17 أغسطس 2012م الموافق 29 رمضان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً