العدد 3633 - الجمعة 17 أغسطس 2012م الموافق 29 رمضان 1433هـ

مساحة حرة - حديث المطار.. وغريب الدار

كنت في مطار دولة غربية عائد إلى بلدي بعد سفرة قصيرة، فجلست منتظراً موعد رحلتي المثيرة، وأنا في شوق لبلدي الجزيرة، رغم المعاناة العسيرة، ورغم الصعوبات الكثيرة، يبقى القلب مشتاق لهذه الجزيرة.
في هذه الأثناء، وأنا غارق في ذكرياتي وشوقي، جلس رجل بجانبي، ذو عين زرقاء لونها مثل السماء، شعره بني كالكستناء، بشرته بيضاء، هيئته تذكرني بالغرباء، سلم عَلي باستحياء، فرددت عليه السلام وأخذت بالإصغاء.
تبادلنا الحديث فسألني عن وطني بابتسامة كبيرة، فأجبت إني من جزيرة صغيرة، تكاد لا ترى بالخريطة، تحيط بها المياه من كل جهة، واستبسلت أسرد تفاصيلها الدقيقة، فأجابني: أعرف عن هذه الجزيرة، فرغم مساحتها الصغيرة، أعرف أنها بالنفط غنية، وأهلها بالطيبة معروفين، سمعت أنكم تعيشون عيشة رغيدة، وتتمتعون بالراحة والحياة الكريمة، فلماذا تطمعون بالمزيد وأنتم تتمتعون بالثروات وتلبسون الجديد؟ علقت مبتسماً، ما كل ما يلمع ذهباً، فالبحر بزرقته يبدو جميلاً، لكنه كم كان غداراً.
سأحكي لك حكايتي، فاستمع لها وركز معي، كنت طفلاً حالماً، أدرس بكل جهدي وطاقتي، كنت أحلم أن أكون طياراً في صغري، تفوقت في مدرستي، ثم التحقت بالجامعة لأكملَ دراستي، بعدها تخرجت بامتياز بعد طول انتظار، بعد سهر الليل والنهار، بعد معاناة خمس سنوات من التعب الجسدي والنفسي والشقاء والإرهاق والإصرار، بعدها وبشكل مباشر، تكونت في فكري بعض الأفكار، سأسردها باختصار، فكرت كيف سأحصل على عمل بكل سهولة ويسر، بعد أن تخرجت من أصعب اختبار، وسأُكون عائلة بعد طول انتظار، وسأشتري سيارة أحلامي بعد هذا الصبر والإصرار.
تقدمت لطلب الوظيفة وكلي أمل، حاولت في كل الشركات والوزارات بدون كلل، أنتقل من شركة لأخرى كل يوم من دون كسل، تواصلت مع الوزارة المختصة وزارة العمل، مرت سنة وعزمي لم يمل، كنت أرضى بكل ما عرض عَلي من عمل، في نهاية المطاف قبلت أن أعمل عاملاً في برادة صغيرة بعد تعب البحث واليأس والإحباط والوجل، تعلمت الصبر وإتقان العمل من دون زلل، وراتبي ضعيف بعد شهرين اشتريت به هاتفاً ورحل.
أخيراً، بعد سنة من البحث والتعب المضني، قبلتني شركة لا لشهادتي أو لتفوقي، بل لكي تجلب من ورائي الأجانب لتعمل في بلدي، لكن المهم أني حصلت على العمل بعد طول انتظاري وصبري.
في هذه الشركة، الأجنبي هو مديري ومدير مديري، والمواطن موظف عادي، رواتبهم ثلاثة أضعاف راتبي، وعملهم ليس بالصعب كعملي، عندما تنظر حولك وتفكر في الأجنبي، تجده في كل مكان في بلدتي، هم في الوظائف العليا وهم في جهاز الأمن وهم في المحلات التجارية وفي الطرقات وفي الحدائق والمقاهي، وحتى في سوق عاصمة بلدي، عندما وصلت هناك وقفت للحظات أستوعب فيها هل أنا في بلدي أم في بلدة أخرى من دهشتي، أبحث عن أبناء بلدتي فيه لا أجدهم وسط الزحام الذي يكتظ بأشخاص يتحدثون لغة أجنبية غريبة عن لغتي، لست ضد الأجانب ولكن جلبهم يجب أن يكون بشروط محددة دون المساس بالمواطن المحلي، أو إعطاء الأولوية له على حسابي، فأهل بلدتي من الشعوب التي تمتلك الإبداع الفكري، فمعروف عنهم التفوق والعطاء والموهبة والتفوق العلمي، ومعروفون في ساحات العمل بالتفوق الميداني، فلماذا الأجنبي مادام أهل الوطن يملكون الخبرة والموهبة أفضل من أي أجنبي؟ سؤال ما زال يتردد دائماً في ذاكرتي.
في نهاية حديثنا توجهنا للمغادرة، حيث طلبوا جوازي الأحمر كالعادة، فأخرجته وكلي فخر بجنسيتي العريقة، فمنذ ولادتي وأنا أشم هواء بلدتي العليل، أتذكر أشجار النخيل، أتذكر نسبي الأصيل، أتذكر الشاطئ الجميل، كانت أيام الماضي الجميل.
انتهيت من إجراءات الدخول المملة، وجاء دور صديقي بالمحادثة الطويلة، حيث أخرج جوازاً أحمر لاح بريقه، فلم أصدق عيني من هول المصيبة، سألته عن جنسيته، فقال: أنا من بلدتك الصغيرة. فقلت: كيف وأنت أجنبي الهوية، وحتى لا تجيد لغتي العربية. فأجاب بكل ثقه لا داعي لكل هذه الفلسفة، الأمر انتهى وحصلت على الجنسية، وأعمل لدى شركة معروفة، أنا مدير الشركة وأنتم الرعية.
إذاً فأنا غريب الدار في موطني، وغيري من خارج الأوطان صار نظيري.. مواطناً!
محمد جاسم الديري
 

العدد 3633 - الجمعة 17 أغسطس 2012م الموافق 29 رمضان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 3:59 ص

      لقد قيل عذاري تسقي البعيد وقاعها ناشف هذا ديدن من لا ينتمي لوطنه يقدم الغريب على الأصيل
      ولكن في فمي ماءٌ وهل ينطق من في فيه ماءُ

اقرأ ايضاً