العدد 3633 - الجمعة 17 أغسطس 2012م الموافق 29 رمضان 1433هـ

المسيلات الرمضانية

القط لايفقه في شهر رمضان شيئاً، لكنّما يشعر أنّ هذا الشهر متميز بكثرة عن باقي أخوته من الشهور، فللقط عينان تبصران ليلاً، وحاسّة شمّ قوية.

ولذا يشعر أنّ غابات الطعام التي يلقيها المسرفون غدت كنخيل جزيرة النبيه صالح، أعجاز نخل خاوية. فيتألم نهاراً، ويجزع ليلاً؛ لاستنشاقه عطراً رمضانياً زاكياً، فتسيل منه دموعه وتنسل الأرواح السبعة معه انسلالاً.

ولاعجب فكثرة البكاء تلين القلب، فمنّا من يبكي دونما معرفة للسبب، أو لتوافه الأمور، بل ومازال الكثيرون مستمرون في ذلك حين تذكرهم بتلك الأيام الجميلة. ولذا أكاد أجزم أنّ قط جارنا يبكي في شهر رمضان أعظم من بني البشر، فحواسه مضاعفة وأرواحه السبعة هالكة، ففضلات الأكل أضحت كالصحاري بعدما كانت كالغابات. فيا ترى ماذا سيكون حاله في يوم العيد؟

لا أدعي معرفة فلسفة الدموع، إلا أن دموعي هذا العام معطرة بالعطر الرمضاني، وها أنا ذا في المواقف الأليمة محاولاً الحد من فيضان دموعي، وخفقان قلبي، فتنفجر العينان كالتسونامي، حتى تغدوان كـ "الطماطة" البحرينية الحمراء الداكن لونها.

ولطالما كتمت مشاعري، فالبحريني عموماً يخال البكاء ضعفاً، حينما يعبّر عن مشاعره المكبوتة داخل تابوته، وكثير منا رمى مفتاح الإفصاح في تابوت البؤس، فمنذ التسعينيات كتمت الحزن في تابوتي.

دموعي تسيل دونما بكاء هذه المرة! فلقد جفتا كعين العكر التي غاض ماؤها وأصبح مراً علقماً. لا أخفيكم سراً، فالدعاء والصيام والصلاة تطهر القلوب، فتمطر الدموع كمثل الأمطار الحمضية التي هطلت على البحرين جراء العدوان العراقي على الكويت. ولكنما عينيَّ أعظم من ذلك، فأنا أشعر بأن روحي تتطهر تطهيراً وللأبد!

ينسل صامتاً ويبغي تفطيري تفطيراً! يحسب أنه ينفذ قول النبي عليه وآله الصلاة والسلام (من فطر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشّهر كان له بذلك عند اللّه عتق نسمة ومغفرة لما مضى من ذنوبه). ولكنه لم يكمل فهم الخطبة (يارسول الله ما يبكيك؟ فقال: ياعلي أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر).

إنها تسيل، بل وتنكمشان كأنما الزئبق فيها يكحلها، ولكن كما المثل الشهير (يريد يكحلها عماها). فتصبحان نضاختان بل كمرج البحرين يلتقيان. فأختنق وتضيق أنفاسي وتنكمش رئتاي، وتنطفآن من لهيب الجمر فيها، ويشتعل جبيني، ويسيل العرق، وتتزلزل خفقات قلبي، كأنني في أولمبياد لندن الذي انطلق في يوليو حتى 12 أغسطس 2012، كأني أخترق الصفوف، وقلبي يستغيث: توقف مهلاً قبل أن أنفجر. وأجيبه إن أنا توقفت هالك لامحالة في هذا الموقع، فسحب العطر الرمضاني كضباب لندن تغزو أنفي كعاصفة الصحراء تخترق الجيوب الأنفية فتنفجر الأنهار من عيني وتسيلان.

لطالما تلوت القرآن، وفي هذا الشهر المبارك ازدادت بحة صوتي وحشرجته، فمن يعرفني ويستمع لي اليوم فلابد أن يبكي لجمال صوتي المبحوح، فرئتاي كالبالونة المثقوبة.

أبكي من رائحة عطر رمضاني نفاث، لا من تخشع التلاوة ولا حسن الإنصات لها، أو لزيادة العبادة (لا يعذِّب المصلين والسّاجدين وأن لا يروّعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين).

لكنما أتى رمضان المسيل للدموع! ومن منا لم تسل دموعه في شهر رمضان؟ يالمسيلات الدموع الرمضانية!

فجزى الله الخفافيش التي أسالت دموعنا، وخنقت أصواتنا، وكتمت أنفاسنا، ورجرجت دقات قلوبنا، وخضخضت أبداننا. فهلاَّ تستنشقون معي عطر رمضان المسيل للدموع؟

عباس علي رضي محمد علي

العدد 3633 - الجمعة 17 أغسطس 2012م الموافق 29 رمضان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً