العدد 3668 - الجمعة 21 سبتمبر 2012م الموافق 05 ذي القعدة 1433هـ

زمن الغرباء

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في أحيانٍ كثيرة، تكتشف أنك غريب. قُدَّامك وخلفك وعلى يمينك وعلى شِمالك خَلْقٌ كثير، لكنك تحسُّ بالغربة والوحدة بينهم. السبب، أنك تفكر فيفكرون في شيء آخر. تقول وهم يقولون شيئاً آخر. تفعل، فتراهم يفعلون شيئاً آخر! تتساءل: هل أنا على خطأ وهم على صواب؟ إنهم طليعيو المجتمع وما أنتَ إلاَّ كسرٌ عشري أمامهم. ربما! لكن منطق الأحداث والأشياء لا تعطي أكثر من نتيجة واحدة، وهي أن ما يفكرون به ويقولونه ويفعلونه لا ينسجم مع ما كانوا يؤمنون به، كما أنه لا يقتضي من أحدٍ تفكيراً زائداً، فهو متفِقٌ مع بديهيات الأمور وسَمْتِها، والتي يؤمن بها أقلُّ الناس علماً وفهماً وإدراكاً فضلاً عن ذوي الحِجَا بالضرورة.

في أحيان كثيرة، تتفاجأ، أن كثيرين يسخَرُون منك. ليست سخرية شخصية لذاتك، وإنما سخرية مما أنتَ فيه، ومما أنتَ عليه، ومما أنتَ تحمله مِنْ هَمّ سياسي أو اجتماعي أو ثقافي. قد تتشكَّك في ذاتك، لكن ماذا تفعل؟! هل تلتَزم أخلاقياً، بما تؤمن به فتصبح طوباوياً ديماغوجياً في نظرهم، أم تسير مع الرَّكب والواقع، فتصبح براغماتياً ميكيافيللياً بنظر نفسِك، فيقع الانفصام التام. لم نفعل سوى أننا اقتدينا بهم كونهم مُعلِّمين لنا وللأجيال (هكذا كنا نعتقد) فإذا بهم يورثوننا التردُّد والجهل، ومخالفة العلم للعمل.

عندما تمعِن التفكير في هذا المشوار من الحياة تجِد أشياء كثيرة مثيرة للعَجَب، وأخرى مثيرة للسخرية، وأخرى مثيرة للاشمئزاز، وأخرى مثيرة للشفقة. ما يجمع كل هذه الإثارات هو إثارتها لك جميعاً. أكثر تلك الإثارات إزعاجاً حين ترى انقلاب المرء على عقِبيه. ترى يسارياً ستالينينياً يؤمن بالأمميَّة، وقد انقلب إلى ما دون الإنسانية، حيث العِرق وعصبياته. وترى بعثياً أو قومياً يؤمن بما هو أبعد من القِطر حيث الأمة، وإذا به يتمرَّغ في وحْل القبليَّة. وترى إسلامياً يهوِي من فضاء الدِّين الأوسع إلى ماخور الطائفية ووبائها. إنها أشياء مثيرة للعَجَب والسخرية والشفقة فعلاً.

لكن أكثر الأشياء التي تبعث عن الاشمئزاز، هي حين ترى الكثير من أصحاب النزعات الليبرالية، الذين أشبعونا هراءً وتنظيراً وقد اصطفوا إلى أنظمة الحكم الديكتاتورية التي كانوا يدَّعُون محاربتها ومناهضتها، ويأنسون بفرو الجوقة، التي كانوا ينعتونها بالرجعيَّة والإسلاموية والضد/لائكيَّة والظلامية والثيوقراطية وكل النعوت المشابهة. إنها درجة من الاشمئزاز لا نظير لها. فهي أولاً تدلل على كارتونية تلك الشخصيات، وثانياً على البون الشاسع ما بين الفكرة وموضوعها لديهم. هنا أتذكر ما كان يقوله الأديب والشاعر الألماني السويسري هرمان هسه: إذا كنت تكره شخصاً ما، فأنت تكره شيئاً ما بداخلك تجده فيه، فما ليس بداخلنا لا يزعجنا. الفارق والمفارقة معاً، هي أن البسطاء من البشر، استطاعوا أن يقضوا على ما بداخلهم من شرور ونوازع نحو الارتداد الجاهلي صوب العِرق/ القبيلة والطائفة، بينما انزلق أصحاب الفكر في ذلك بأشنع الصور!

نحن نتساءل: لماذا يحصل هذا الأمر، لطبقة كنا نعتقد أنها مُحصَّنة ومبنيَّة بناءً فكرياً قوياً؟ الجواب بسيط جداً، وهو يجيب عليه جيورج فيلهلم فريدريش هيغل عندما قال: «وعي الحرية وعياً تاماً، في كل زمان ومكان، لابد أن يكون سابقاً على تحققها تحققاً عملياً». هذا الأمر ينسحب على أشياء كثيرة، بما في ذلك المفكرون المنزلقون في نقيض ما كانوا يؤمنون به وبين ما يعملون به اليوم. فهؤلاء بدأوا مشوارهم الفكري والايديولوجي من غير أن يعوا وعياً تاماً ما هم يرومونه وما يؤمنون به من أفكار أصلاً، لذلك، فهم يتعثرون في أول اختبار جِدِّي يُمحَّصُون فيه. فالأفكار لا يمكنها أن تبقى أفكاراً فقط، وإنما هي تسير نحو التشكُّل العملي عندما تصبح مشروعاً قائماً، لكن هذا الأمر، لا يتحقق، إذا ما فشلت تلك الأفكار في البروفات الأوليَّة، التي تلِي القناعة بالأفكار وتسبق قيامها عملياً كبناء واقع. هذه هي العِلَّة التي تجعل مثل هؤلاء ينهارون عند أول هزَّة تصيب القلب والمشاعر ودسائس العرق والطائفة كما تصيب العقل والاعتقاد.

آفة أخرى يجب الالتفات إليها، جميعاً ومن دون استثناء، كي نفهم كيف تعثَّر أولئك النفر. فالبعض يعتقد أنه قد أوتي من العِلم ما يُنسِي ما قبله ويُتعِب ما بعده، وبالتالي، فهو غنيٌّ عن الاستزادة، بل يجب أن يتحوَّل إلى معبود يُحَجُّ إليه ويُستفاد من عِلمه. هذه ليست آفة فقط، بل هي تورِث صاحبها النرجسيَّة، التي تجعله يتصوَّر أنه قد أصبح غاية بحد ذاته. فالعلوم تستمر والنظريات الحديثة تتدفق، والنقاش العام يستعر، وتولَد أفكارٌ جديدة، وتنحسر أخرى، وتتلاقح ثالثة، وصاحبنا لايزال يعيش لحظته السابقة، وهو ما يُورِّثه في متاهة الاستصحاب القاتل، الذي يجعله يرى ويشم ويسمع ويتكلم ويتحسس ويتنفس ويفكر ويقرر طبقاً لمقتضيات لحظة انصرفت ولم يعد أوانها قائماً أصلاً.

إن الحكم نتيجة الحكمة، والعلم نتيجة المعرفة، فمن لا حكمة له لا حكم له، ومن لا معرفة له لا علم له كما قال ابن عربي، وبالتالي لا يعتقد أحدٌ أن العلم له حدٌّ أو أجلٌ، وإلاَّ لما أدركه الإمام السّكاكي. نعم... إن الاستمرارية في التحصيل والبحث والتحرِّي وإجراء المقاربات والتأمُّل في الأشياء هو أكبر ضمانة لنيل أجزاءٍ أكبر من الحقيقة. كما أن الوعي بالأفكار وعياً تاماً قبل تحققها هو الجانب الأهم والأسبق لتحصين تلك الضمانة. هنا وقبل أن نضع نقطة الختام، نتساءل: مَنْ هم الغرباء فعلاً؟! وللقارئ الكريم أن يجيب.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3668 - الجمعة 21 سبتمبر 2012م الموافق 05 ذي القعدة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 4:47 ص

      الطوباوية والبراغماتية

      الطوباوية والديماغوجية تعني أن الإنسان يميل صوب الخيالية والمثالية أما البراغماتية والميكيافيللية فتعني الإنسان الذي يتبع مصالحه فقط وفقط أعتقد أننا نحن قراء الصحافة يجب أن لا تفاجئنا مثل هذه الكلمات بل بالعكس هي تدفعنا للبحث عن معناها وبذلك يزيد ما لدينا من أفكار

    • زائر 7 | 4:44 ص

      المؤزمون جهله ..!!

      الأنتهازيون ينتهزون الفرص للقفز عليها وتوزيعها بين موالوهم فهل أكل الحرام لأبنائكم جائز وأنتم تعلمون بحرامه وأغتصابه من من لا يستحق ؟؟ عجيب أمركم

    • زائر 6 | 4:34 ص

      المشكلة تكمن في

      ليست المشكلة في تغيير الآراء السياسية فإذا كانت الفتاوى والحكام الشرعية تتغير طبقا للموضوعات والظروف فكيف بالآراء السياسية لكن المشكلة هي في الانقلاب من شخص مناصر للإنسان إلى شخص آكل للحمه ومناصر للظالم ضد المظلوم كما حدث . من شخص يدعي أنه يفنى من أجل البشرية إلى شخص يفنى من أجل مصالحه وطائفته

    • زائر 5 | 4:22 ص

      علي أحمد

      لتعم الفائدة أرجو حين استخدام مصطلحات صعبة وضع معناها بين مزدوجين صغيرين وشكرا لك على الاثراء

    • زائر 4 | 2:00 ص

      زمن الغرباء

      ان التغيير والارتداد لا يأتي الا من ناس لم يكونوا مقتنعين في يوم من الايام بما يحملون من أفكار ومعتقدات ثم المصالح الشخصية والفئوية هنا تلعب دور بارز للناس الذين يعيشون على الهامش ويلون الواحد منهم ويغير جلده كلما احتاج لتغيير ملابسه خاصة الى ناس لم يحققوا نجاح او تحصيل علمي او مهني في حياتهم على الاطلاق

    • زائر 3 | 1:15 ص

      علي نور

      تحية لكاتبنا العزيز.. من الطبيعي ان تشكو من سخرية الناس مما تحمله من هم سياسي خصوصا ادا وجدوك تستبدل تلك الاراء السياسية الى اخرى في حالة تغيير فكري سياسي غريب.. وهذا ما وجدناك فيه فلطالما رايناك تنتقل برايك من ضفة الى اخرى ولا ندري ما السبب، ان اهم ما يملك الكاتب الصحفي هو رايه فادا تغير رايه في قضية ما تغيرت تظرة الناس له وهذا امر طبيعي لا يجب ان تشتكي منه.

    • زائر 9 زائر 3 | 7:23 ص

      غير صحيح ماتقوله عن الكاتب

      اعتقد ان الكاتب من افضل الكتاب في البحرين ليس في الوسط فقط بل علي مستوي البحرين من الناحيه المعرفيه والمصداقيه. فلتها من قبل المشكله ان قراء الوسط او لنقل جلهم من طيف سياسي وفكري واحد فاما ان توافقهم بالمطلق او لا. الكاتب ببساطه ينتقد جميع الاطراف. اتذكر ان الكاتب انتقد بعض الافكار والجوانب الطائفبه للثوره السوريه فمنكم من سخر منه ومنكم من نعته بالمتقلب ظنا منكم انه اصبح ضد الثوره وهو ليس كذلك كما اعتقد. اما بالنسبه الي الزائر 2 اذا اردت ان لا تفهم شيأ فهذا شأنك. بوهاشم

    • زائر 2 | 12:42 ص

      الصراحه خفف من هل كلمات التفلسفيه

      ولا فهمنا شي
      تصبح طوباوياً ديماغوجياً في فتصبح براغماتياً ميكيافيللياً بنظر نفسِك،
      فسرو

    • زائر 1 | 12:06 ص

      واكثر

      اشكركم يا استاذ أبو عبد الله على هذا الاثراء الدائم والتمير . ان هذا التغير والارتداد كما تقول هو نتيجة طبيعة لعدد هائل من مثقفينا الذين لا يحسنون بالاساس اختيار افكارهم حتى تراهم بعد سنين او اشهر يتحولون وكانهم كانوا في حالة جنون واستفاقوا

اقرأ ايضاً