العدد 3726 - الأحد 18 نوفمبر 2012م الموافق 04 محرم 1434هـ

جَسَّاس بن مُرَّة وغريزة القسوة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لما سَمِعَ جَسَّاسُ بن مُرَّة خالته البسوس بن منقذ وهي تولوِل على قتلِ كُلَيْبٍ بن ربيعة التغلبي (شقيق زوجته الجليلة) لناقتها وفصيلها، هَبَّ من مجلسه ومعه ابن عمه عمرو بن الحارث، قاصِداً الانتقام من صِهْره. فلما جالَ في البراري ظفر به عند غدير الذَّنائِب (وهو طريق على يسار مكَّة) فعَطَفَ عليه جَسَّاسٌ بفرسِه حتى طعنه برمح فأنفذه في حِضْن كُلَيْبٍ فسَقَط أرضاً.

فلما دنا الموتُ من كُلَيْبٍ بن ربيعة وشارف على الهلاك، نادى على قاتله وزوج أخته جسَّاساً أن يسقيه شربة ماءٍ، فردَّه قائلاً: ما علقت استسقاءك الماء منذ ولدَتك أمك إلاَّ ساعتك هذه. فلما آيَسَ منه، التفت إلى عمرو وقال له: يا عمرو، أغثني بشربة ماء، فنزل إليه وأجهز عليه، فقالت العرب:

والمستجيرُ بِعَمْرو عِندَ كُربَتِهِ... كالمستجِيرِ مِن الرَّمضاءِ بالنار (وقيل من الدَّعْصاءِ بالنار).

هذه القسْوة (قتل جَسَّاسٍ لصهره) الممزوجة بالجاهلية في الموت (الانتقام من آدمي بسبب قتله ناقة)، قد أنشَبَت حرباً دامَت أربعين عاماً بين قبيلتي بكر (التي ينتمي إليها جَسَّاس) وتغلب (التي ينتمي إليها كُلَيْب). أساس الأمر، هو الجَهل، قبل أن يتحوّل ذلك الجهل ويمتزج بالقسوة والدموية والسَّاديَّة.

فالجاهلية لا يجبُّها العلم فقط، بل هي تنحسر أساساً من الإيمان بذلك العلم وبفروضه، لا بترديد كلماته، كما الصلاة حين تنهى عن الفحشاء والمنكر. أما القسوة، فمردُّها انقلاب النفس على عقبيها، لترتدَّ نحو الحيوانية، التي لا تعرف شيئاً سوى انعدام العقل والمنطق، ومن هناك كان التلازم ما بين الجاهلية وبين القسوة.

اليوم، ونحن نعيش في العام 2012، أيّ يفصلنا عن حادثة جسَّاس ألف وخمسمئة وثماني عشرة سنة، إلاَّ أن ثقافة القسوة والجاهلية مازالت حاضرة بيننا، بل ومتجذرة فينا. إنها الذئبيَّة المقيتة، التي لا يليق ببني آدم أن تكون من سِماتهم أو أن يتطبَّعوا بها. اليوم، لا يكاد يمرُّ يومٌ إلاَّ ومشاهد القسوة حاضرة بقوة عند البشر وبعدد زفيرهم وشهيقهم لكثرتها وشياعها بينهم.

في عالمنا العربي، الذي ظهرت منه أوَّليَّات القانون وشرعته قبل ثمانية آلاف سنة، أظهَرَت لنا عديدٌ من تجارب الحكم فيه، كيف مارست عدواناً وظلماً على الناس والشعوب بغريزةٍ هي أكثر من الذئاب، في إراقتها للدماء ومن دون رحمة ولا إنسانية. لقد استبدلت تلك الأنظمة الناس كأهم عناصر الأمة والدولة، لتجعل منهم أدنى المراتب وأحطها، فتدوس عليهم بكعبها، وترفع من شأو المُلْك والتسلُّط، في الوقت الذي هو أقلَّ العناصر شأناً بين كل تلك المكونات، كما كان يقول الفيلسوف الصيني القديم منسيوس، حين يصبح البشر قرابين من أجل الحكم لا العكس.

المشكلة الأكبر، هي أن تلك الأنظمة، لم تكتفِ بإهانة الإنسان وظلمه فقط، بل وأحاطته بجوٍّ من الرُّعب الأهلي، بتشطيرها لاجتماعه وتساكنه، فتزيح هذا لتضع ذاك، وتقرِّب هؤلاء وتبعد أولئك، ثم تؤلب بعض الناس على بعض، بالرِّهاب العرقي تارةً، وبالطائفي تارةً أخرى، لكي تفرز المجتمع، فتجعل جزءاً منه مناصراً لها، عبر الترهيب أو عبر العطاءات، كي يضيع الدَّم والجرم، فيجعل الحاكم من الناس المناصرة له متاريس تقِيْه من الضربات، وتموت من أجله وهو ضاحك.

هذه الأنظمة تبيع لُحمَة الناس وائتلافهم (التي هي غاية الشعوب جميعاً) بسعر كرسي الحكم، وهو أمرٌ ليس بجديد عن ثقافة الحكم السلطوي، لعصر آخر قطرات الأيام والسنين للبقاء في السلطة، وقد فعلها من قبل الإمبراطور المتجبِّر نيرون في روما حين ألَّب شعبه طيلة أربع سنين على المسيحيين بعد حريق روما الهائل، وأيضاً فعلها الإمبراطور فريدريك الأكبر في بروسيا، وفعلته أغلب الدول ذات العقيدة السياسية الديكتاتورية، سواء عند الرجعيين أو الفاشيين.

يخطئ هؤلاء الحكام ومَنْ يشايعهم من المنتفعين، أن القسوة تكفي لإبادة الخصم، بل على العكس، فإن تلك القسوة قد تحفر لهم قبوراً ولحوداً.

فالظلم، والقسوة الجاهلية، في إراقة الدَّم، والتشفّي في القتل، والتنكيل بالرجال، والتعرُّض للنساء، ونهب الأموال، وتغييب العدالة ليست أفعالاً تخصُّ ساعة زمانها وتنتهي، بل هي تبدأ بوقوع الظلم، لتنعقد نطفة الانتقام وتتدحرج، ثم تستمر، حتى تتعاظم، فيظهر مَنْ يطالب بتلك الحقوق حتى ولو بعد حين.

إذا كان الدَّيْن يظل عالقاً في رقبة مَنْ يجب عليه سداده تجاه الدَّائن حتى بعد مماته، فما بالك بالدَّم، الذي يعني الروح والجسد، والنسْل والنسَب، وعمارة الأرض. هذه الدماء حتماً سيأتي من يسأل عنها، ويطالب بها كلما غَزُرَت، واستتبعتها مظالم لا تنتهي. فجريمة القتل فيها آمرٌ بها، ومنفذٌ لها، ومتفرِّجٌ عليها، وآخر ساكتٌ عنها. وهؤلاء جميعاً يرفلون في الإثم بدرجاتهم.

أليس عجباً أن تقيم الدول العلاقات الحسنة مع جيرانها لكي تأمَن شرهم، فتحمي حدودها من المتسللين، ومن مخاطر التهديد الأمني العابر للحدود، لأنها تدرك، أن إقامة الأسوار ونقاط التفتيش والرَّصد لا تكفي أبداً لضبط الحدود، لكنها لا تفعل ذلك مع شعوبها التي تعيش بين أضلعها؟ هي تستصغر قيامها بنسج علاقات طيبة وعادلة معهم لكي تعيش معهم بأمان! هذه مفارقة، بل هي قمّة البله السياسي، كون تلك الأنظمة تقوِّض أمنها بيديها، لأنها تعادي الأقرب إليها.

خلاصة القول، هو أن البشر يحمون ديارهم بحماية دور جيرانهم. فعندما تحمي جارك فأنت بذلك تحمي دارك، وعندما تؤذيه فأنت تجلب الشوك إلى حيث منامك، فالجدران لا تمنع الضغينة من أن تتسرَّب من داره إلى دارك. والشواهد على ذلك لا حصر لها ولا عَد. وربما لم يحسب جَسَّاسٌ أن بقَتَله كُليْباً، سيعني أنه بذلك يُقرِّب أجَلَه. وهو ما حصَلَ فعلاً. فمثلما قَتَلَ هو صِهره كُليْباً، ورمَّل أخته الجليلة، فقد شاءت ثقافة الانتقام، أن يقتله ابن أخته الهجرس بن كُلَيْب، الذي ربَّاه صغيراً بعد قتله لأبيه، لكي يثأر له. وعندما طَعَنَ الهجرس خاله جَسَّاساً قال: وفرسي وأذنيه، وناصيته وعينيه، ورمحي وطرفيه، وسيفي وشفرتيه، لا يدع الرجل قاتل أبيه ينظر إليه.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3726 - الأحد 18 نوفمبر 2012م الموافق 04 محرم 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 6:40 ص

      مقال موفق

      شكرًا على هذ المقال الاكثر من رائع

    • زائر 2 | 1:18 ص

      ليبيا مثالا

      رغم أن الانتقام مرفوض لكن ما حصل في ليبيا بين ثوار مصراتة والزنتان ضد مناطق أخرى والت القذافي هو دليل على ذلك

    • زائر 1 | 12:35 ص

      احسنت ايها الكاتب أجدت فأحسنت

      موضوع يلامس الجرح ،نعم ان الجهل و الثأر و الانتقام التي تأصلت في بعض قلوب البشر و خصوصاً من يعيشون ضمن قبائل او البدوان مازالوا يتعاملون بهذا المبدأ المترسخ فيهم الى الان للاسف و هذا مانراه في كل العالم نتمنى زوال مبدأ الجاهليه لانه لا يوّرث الا الخراب و الدمار و سفك الدماء و احلال العقلانيه و مبدأ التسامح الذي دعانا اليه رسول الله صلّ الله عليه و اله فالنبي نهانا ان نتعامل بمنطق الظلام و الجاهليه و نقلتا من الظلمات الى النور الا ان بعض بقايا البشر لم تخرج من الظلمات اصلاً فالله المستعان

اقرأ ايضاً