العدد 3827 - الأربعاء 27 فبراير 2013م الموافق 16 ربيع الثاني 1434هـ

فقه الطغيان... استدراك لمقال غابر

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

تناولت قبل سنوات في مقال مطوّل «فقه الطغيان» لا من حيث مصارف ومنافذ وبيوت التبرير التي يطلع بها لتكريس الواقع الذي يهيمن عليه مثل ذلك الطغيان فحسب؛ بل امتد وتناول الذين يرفدون ذلك الطغيان من عديمي الضمير والأخلاق، بالمنحطّ من قيمتهم، والتافه من حضورهم/العدم، والمشمئز من انتسابهم إلى حركة العالم من حولهم، والذين يرون في الحصص الشائعة منه غير مقنعة ويجب تركيزها ومضاعفتها كي يستتب أمرهم ومن يَلُون ومن يتبعون؛ لا استتباب أمر الناس في استقرارهم ومعاشهم وحقهم في الحياة من دون شروط لا تقل أثراً عن سوق العباد إلى حتفهم على مراحل بدلاً من إنجاز ذلك الحتْف في جلسة سمر أو مزاج أو حتى اجتماع لأركان التحكّم في المصير حقيقة أو وهماً.

أعيد تكرار السؤال نفسه في المقال سالف الذكر: هل للطغيان فقه؟ وهل يلتقي الاثنان؟ فقه وطغيان؟ الفقه في اللغة: العلم بالشيء والفهم له والفطنة فيه؛ وإن غلب على علم الدِّين؛ فيما الطغيان في اللغة تجاوز الحدّ. أن يفهم أو يفطن المرء لمسألة أو بشر أو نظر لشيء يعني في أبسط دلائله إحاطة بما توافر من أدوات فهم وتقييم ونظر؛ فيما الطغيان يذهب إلى الطريق النقيض من الفهم، فلا وقت لديه في تقرير استباقي، وإلى الطريق النقيض من الفطنة ممارسة للتجاوز وجعله شرعة ونمط حياة وأسلوب تعاطٍ مع من يُمارس عليهم تجاوز الحد ذاك.

من البداهة معرفة أن الطغيان لا يمكن أن يجد أرضيته الخصبة لتجاوز الحدّ الطبيعي في العلاقات على تعدّدها وتنوعها في أمور صغرت أو كبرت؛ أو أدوار عظمت أو تواضعت، إلا بمن وما يتيح ذلك الدور والتجاوز. الخانعون والمستسلمون والمتواطئون والصامتون حفاظاً على منافع ومكاسب ومغانم؛ وأيضاً الذين جاءوا إلى الحياة وهم شهود زور على تزيين البلاء وتلميع الكارثة والحث والحض عليها لما في ذلك من خزائن مغلقة ستفتح وكنوز مواراة ستفضح.

فقه التبرير لما يناسب مختطفي المراحل والأزمنة في تاريخ أمم من غفلة واستسلام وخنوع ورضا بالأمر المُصيَّر والواقع. لا علاقة له بتخيير أو تسيير يتم إنتاجهما في مختبرات سلب الإرادات وتكييفها وتوجيهها. وفي المقابل لا يعدمون مواجهة ممن لا يرون معنى وقيمة وهدفاً ومرمى من تنفسهم في حياة تخنقهم وتواريهم التراب كل لحظة بفعل تقنين وشرعنة ذلك الطغيان وجعله خياراً أوحد لا غنى لسعادة الأمة ورفاهيتها بعيداً منه.

لا تستقيم الفطنة في معنى الفقه والحمق في الأداء الذي ينتج عن التجاوز (الطغيان) كأنك عن رهافة أمرين أو شيئين تتحدّث وترمي: النار والماء، التأمل والهيام في الغباء والعدم. القلب والحديد. الجهات في نصوعها ووضوحها والسراب الذي يكاد يتحول إلى مشنقة تخنق البلوغ والوصول. لم ترْبُ تلك السوءات وتتطاول لولا أن رعاة وممهدين ومزيّنين لذلك التجاوز ومسوّقين لما كان له من أثر على محصلات معاشهم ومغانمهم واستفاداتهم من انحراف الأوضاع واعوجاجها.

ضمن ذلك كله، لا يمكن قبول صوت يشذ عن قاعدة الإفك وتأييد الزور ومؤازرته وضخ مزيد من إكسير الغرور والوهم في روحه وشرايينه. مثل ذلك الصوت بمثابة خروج صريح على قاعدة قائمة وثابتة ومكرّسة لا يمكن التفكير في الإخلال بها؛ أو محاولة تصويب تقريرها ذات تعمّد غفلة، ففي ذلك مشروع مفتوح على التهلكة، وما أدراك ما التهلكة في محيط ابتلينا به كهذا.

الطغيان يريد تحويل البشر إلى كائنات غير مرئية. كائنات برسْم القدرة على استدعائها وتسخيرها، وبرسْم محوها ونفيها وكأنها لصيقة العدم؛ إن لم تكن العدم في أصله.

أكرر: أن يطلع صوت يعرّي المنحرف من أداء حياة الناس، وأن يطلع صوت يشير بسبّابته في عين الخلل والطغيان اللذين تم تتويجهما بفقه يمنحهما شرعية أن يراكما بلاءهما، فذلك ضرب من استحالة تأجيل ما تبقى فيه نفَس أو قدرة على التجانس مع ما يحدث ولو لزوماً للصمت في أهون الحالات وأخطرها في الوقت نفسه.

يورد المسعودي (أبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي) في «مروج الذهب ومعادن الجوهر» في جزئه الثالث: حدّثني العتبي، عن عبدالغني بن محمد بن جعفر، عن الهيثم بن عدي، عن أبي عبدالرحمن الكناني، عن ابن عباس الهمداني، عن عبيد بن أبي المخارق، قال: استعملني الحجاج على الفلّوجة فقلت: أههنا دهقان (التاجر، أو رئيس المقاطعة والإقليم) يستعان به؟ فقالوا: جميل بن صهيب. فأرسلتُ إليه فجاءني شيخ كبير قد سقطت حاجباه على عينيه، فقال: أزعجْتني وأنا شيخ كبير. قلت: أردتُ يمْنك وبركتك ومشورتك. فأمر بحاجبيه فرفعا بخرقة حرير، وقال: ما حاجتك؟ قلت: استعملني الحجّاج على الفلّوجة وهو ممن لا يُؤمن شرّه، فأشرْ عليّ. قال: أيّما أحبّ إليك: رضا الحجّاج، أو رضا بيت المال، أو رضا نفسك؟ قلت: أحبّ أن أرضي كل هؤلاء، وأخاف الحجّاج فإنه جبّار عنيد. قال: فاحفظ عني أربع خلال: افتح بابك ولا يكن لك حاجب، فيأتيك الرجل هو على ثقة من لقائك، وهو أجدر أن يخافك عمّا لك، وأطل الجلوس لأهل عملك، فإنه قلّما أطال عامل الجلوس إلا هيب مكانه، ولا يختلف حكمك بين الناس، وليكن حكمك على الشريف والوضيع سواء، ولا يطمع فيك أحد من عملك، ولا تقبل من أهل عملك هدية، فإن مهديها لا يرضى من ثوابها إلا بأضعافها، مع ما في ذلك من المقالة القبيحة؛ ثم اسلخ ما بين أقفيتهم إلى عجوب أذنابهم (العجوب: جمع عَجْب، وهو أصل الذّنب عن رأس العصعص) فيرضوا عنك، ولا يكون للحجّاج عليك من سبيل.

أخْذٌ بمخطط إصلاح كذاك فيه خراب حيوات طحالب، وفيه نفاذ ذخيرة بطالة اعتادت عليها، وفيه أخذ بها إلى حيث يحتبس هواء عن رئتها بفساد اعتادته، وحرام توغّلت فيه، ومظالم أدمنتها. مثل ذلك سيكون مستشاراً فاشلاً بامتياز ولن يكون مفاجئاً أن يطل في صباح يوم أو مسائه على إحدى الشاشات متهماً بالضلوع بالخروج على كروية الأرض، ودائرة الهيمنة مطلقة اليد.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3827 - الأربعاء 27 فبراير 2013م الموافق 16 ربيع الثاني 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 1:26 ص

      قال تعالى: ألم احسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون

      ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين.
      تلك آيتين كريمتين في كتاب الله هما مناط الامتحان والاختبار الالهي فلا يمكن للانسان القول بأني مؤمن ولما يأته الامتحان والاختبار الالهي .
      ما يعانيه شعب البحرين هو امتحان وابتلاء ابتليت به الكثير من الشعوب وربما يكون نصيب شعب البحرين اكثر من غيرها لحكمة يعلمها الله.
      لذلك صبرا بني قومي فإن موعدنا الجنّة ونحن على اثر سيد الشهداء فلم نخرج اشرين ولا بطرين ولا ظالمين ولا مفسدين وانما طلبا للاصلاح في ارض الايمان

    • زائر 1 | 1:17 ص

      وفقه الطغيان واجب شرعي لم باع اخرته

      لو كان هناك ايمان بالاخرة لم ظهر احدهم وافتى وجوز الباطل عجبي لمن يبيع اخرته بدراهم

اقرأ ايضاً