«الجريمة» كلمة باتت من المترادفات التي تتكرر كثيراً هذه الأيام، وهذا أمر لا غرابة فيه وخصوصا مع زيادة التوجه السينمائي العالمي نحو تعظيم الأرباح من وراء الصناعة السينمائية التي تجعل من فنون الرعب والجريمة هدفاً ووسيلة لها... تلك الصناعة التي باتت هوليوود رائدة فيها بلا منافس، فكانت الأفلام التي تخرج بمثابة فنتازيا إجرامية بلا ضوابط أو حدود، فالعنف والدماء عنصران غالبان على السينما الأميركية التي انتشرت عبر دور السينما العالمية وتحولت إلى ثقافة سينمائية عامة يتربح من ورائها كل من يسعى وراء الربح والممزوج بدماء الجرائم التي تترتب عليها. وعلى رغم أن هذه السينما يرفضها كل من يتمسك بالأهداف السامية فإنها أصبحت حلما يبحث عنه كل راغب في دخول عالم الشهرة والمال. ومن ثم استطاعت أن تمثل مدرسة السينما الهوليوودية دور المنقذ لصناع السينما حول العالم فتجد أفلام «سوبر مان»، الذي يطير ويقتل ويقترف كل صنوف العنف والجريمة رمزاً للمخلص، وكذلك نجد هذه القيم السامية في أفلام «القناع» و «دراكولا» و «تهديد الشبح» و «جريمة في الصيف الماضي»، ومن قبل «الأب الروحي»، وغير ذلك من الأفلام التي تمثل علامات في سباق صناعة العنف والجريمة ضد الإنسانية جمعاء. وبالتالي جاءت آلاف الجرائم لتشير إلى أن مصدرها الأساسي أفلام العنف للجرائم في كل دول العالم كتلك الجريمة البشعة، التي ارتكبها حبيبان أميركيان عندما قاما بقتل عدد كبير من زملائهما بالمدرسة، ثم انتحرا كأعنف وأقسى ترجمة حقيقية وفورية لتلك الأمراض القاتلة، التي يعاني منها المجتمع الأميركي، لكنها أيضاً دفعتنا لتوجيه أصابع الاتهام مرة أخرى إلى سينما العنف والدماء والجنس، تلك الصناعة التي تسعى في الأساس إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب المالية التي تحصل عليها من جيوب الصبية في كل العالم، وهي في ذلك المنحى لا تلقي بالاً لما تتركه هذه المشاهد في مخيلة المتفرج الذي يستسلم أمام الفيلم.
والكارثة الحقيقية أن هذه الصناعة لا تهتم بتقديم سينما حقيقية بقدر ما تهتم بأرقام التوزيع وإيرادات دور العرض، ولذلك فإن الفيلم لا يحمل في الغالب قيمة فنية عالية ولا يناقش أي قضية، فقط هو مجرد حكاية ملفقة حشر فيها أصحابها مشاهد مثيرة من أجل جذب الجمهور إلى الصالات وليحدث ما يحدث بعد ذلك. ولهذا كله أصبحت السينما الأميركية جديرة بأن يوجه لها هذا الاتهام وحدها دون الآخرين، فهي رائدة أفلام العنف ووقودها الحي إلى يومنا هذا، إذ يتفنن صانعو تلك الأفلام في تلفيق وتطوير مشاهد مزعجة من دون النظر إلى الرسالة الحقيقية التي يمكن أن يؤديها هذا الفن، مستخدمين في ذلك أحدث الوسائل التكنولوجية لتظل سينما العنف وحدها هي الأكثر انتشاراً في العالم... فلماذا انتشرت بهذه الصورة؟
فصول من العنف
ويعد تغليف صورة العنف بشكل تقني عال، كما حدث في سلسلة أفلام «حرب النجوم» سعيا للربح المادي الفاحش على حساب المجتمع المسالم في بلدان كثيرة، وأفلام حرب النجوم نموذج حي لهذا الفعل، واستثمار للعنف الخطير، فالثلاثية التي بدأت فصولها العام 1977 للمخرج الشهير حالياً جورج لوكاس تروي عن الامبراطورية «توتاليتارية»، التي تزرع الرعب والإرهاب في كل المجرة التي تدور عليها الحوادث، حيث مجموعة من المتمردين بقيادة الأميرة «ليا» تستولي على نجم الموت، وهو تصميم متطور من الأسلحة، ثم تدور المعارك للحصول على نجم الموت وتدميره، وتقوم الحروب ضد الامبراطورية في الجزء الثاني من السلسلة الامبراطورية تضرب مجدداً العام 1980، واستثمارا لنجاح العنف والتدمير يأتي الجزء الثالث العام 1987 بعنوان «عودة جادي» للانتقام بوحشية من كل الذين على المجرة، وليتهم توقفوا عند هذا الحد، فقد عادت السلسلة من جديد وبدأت فصول العنف والتدمير بأول أفلامها «تهديد الشبح»، الذي عرض في العام الماضي ومازال مستمراً في بعض دور العرض حتى هذه الأيام من العام 2000، وحقق بكل ما فيه من عنف وصخب وتقنية أيضاً إيرادات مهولة وتم استثماره في أجزاء 2002، ثم الجزء الثالث 2005 لتصبح أطول سداسية لأفلام العنف والدمار في السينما العالمية. وليس ببعيد أيضاً الفيلم الأميركي «جريمة في الصيف الماضي» الجزء الثاني، الذي استثمر نجاح الجزء الأول، و»معزوفة» من الرعب الوحشي لمجموعة من الأصدقاء في رحلة إلى جزيرة معزولة بغرض تقضية إجازة سعيدة ليوم واحد، لكن في الجزيرة يواجههم القتل والرعب بكل أنواعه وأشكاله إنها ساحة للدماء، جزيرة كل من يدخلها يموت ميتة بشعة، وكل هذا من أجل «شباك التذاكر»، فكل ما يقدمه الفيلم قتل ودماء ورعب وأصوات حتى أنك تبقى في الكرسي منكمشاً وخائفاً حتى من فكرة الخروج من السينما.
أفلام للعنف
ولم يكن هناك أكثر من فيلم «الأب الروحي» لمارلون براندو، الذي ازدحم بمشاهد العنف المزعجة، لكن هناك بالتأكيد قائمة طويلة جداً من الأفلام التي صنعت خصيصاً من أجل شباك التذاكر، حتى أن أحد كتاب السيناريو الأميركيين صرح محذرا من خطورة الأفلام، وقال إنه ليس معقولاً أو مقبولاً أن يكون العنف في الأفلام هو الأساس في حد ذاته أو الفكرة المحورية، التي تبنى عليها مجريات الفيلم، فقد رأينا في الأفلام القديمة وأفلام الغرب مشاهد عنف كثيرة، ولكن الواضح الآن أن هناك أفلاماً تنتج خصيصاً من أجل العنف والجنس والشيء نفسه يتكرر في أفلام مثل «ما الذي أفعله هنا» وفيلم «الجاذبية المميتة»، الذي يجسد شخصية امرأة متسلطة ذات نفوذ كبير، وهو من إنتاج شركة بارامونت الأميركية، ومن الأفلام الأجنبية الأخرى التي تناولت العنف بصورة مكثفة فيلم «دستة أشرار»، إذ يصور اثني عشر سجيناً يحكم عليهم بالإعدام ويعرض عليهم القيام بعملية انتحارية لخدمة وطنهم أثناء الحرب، ويوافقون ويموتون شهداء في سبيل الوطن، أما فيلم «الشيطان يعيش مرتين» وهو إنجليزي من إخراج لويس حلبرت، فتدور حوادثه حول البطل الذي يقضي على عصابة تريد أن تسيطر على العالم، وبعد مغامرات متعددة لقتله ينجح البطل في التخلص منهم وإعادة الأمور إلى نصابها بعد سلسلة من الحوادث العنيفة وتتخلل الفيلم مشاهد جنسية صارخة.
الضالة المنشودة
ويضيف أن بعض شركات الإنتاج السينمائية تلجأ إلى هذه النوعية من الأفلام، لتحقيق مكاسب مادية ضخمة أو لسد العجز في موازنتها. ويبدو أن هذا ما حدث مع شركة «بارامونت» فقد وجدت في أفلام العنف والجنس ضالتها المنشودة بعد سلسلة متلاحقة من الخسائر، التي لحقت بها بسبب إنتاج عدد كبير من الأفلام الرومانسية في السبعينات ومنتصف الثمانينات، واستطاعت بفيلم «الجاذبية المميتة» تعويض جزء من خسارتها، إذ حقق الفيلم إيرادا بلغ 95 مليون دولار أميركي، ولايزال يلاقي إقبالا في كثير من دول أوروبا والولايات المتحدة، وخصوصا من عشاق مشاهدة الفيديو وأفلام الكمبيوتر، وهذا ما أعلنه صراحة رئيس شركة بارامونت بأن هذا الفيلم أعاد للشركة توازنها المالي. ويعتبر هذا هو ثاني فيلم يحوز على شهرة واسعة من إنتاج الشركة. وجذبت أفلام العنف الكثير من كبار النجوم العالميين، فها هو الممثل العالمي مايكل دوغلاس يقوم ببطولة فيلم «الجاذبية القاتلة»، الذي أعلن أنه كان خائفاً عند قبوله بطولته خشية أن يؤثر على شهرته نظراً إلى امتلائه بمشاهد العنف والجنس، وأنه لا يقدم رؤية جديدة، ولكنه شخصياً دهش من الإقبال الكبير من جانب الجمهور على هذا الفيلم الذي حطم الأرقام القياسية في عدد المشاهدين والدول التي عرض فيها، ففي هذا الفيلم تبرز مشاهد العنف والإثارة بصورة خطيرة وكبيرة. وأرجعت شبكة التلفزيون الأميركية NBC سر نجاح أفلام العنف إلى رد فعل الأفراد تجاه الظروف المجتمعية القاسية، التي يواجهونها.
الاعتراف النقدي
خلال الأعوام القليلة جاء تعاطف رواد ونقاد السينما العالمية مع هذه النوعية من الأفلام ليمنح انتشارها شرعية فنية وتدعيما نقديا، ففي مهرجان «كان» السينمائي في فرنسا تم منح فيلم «صمت الحملان» خمس جوائز أوسكار وهي: أحسن فيلم، أحسن ممثل، أحسن ممثلة، أحسن قصة، أحسن سيناريو. وهذا الفيلم مليء بمشاهد العنف والشذوذ الجنسي، فهو يجسد مشكلة الدكتور الأميركي آكل لحوم البشر. وقد حقق هذا الفيلم أرقاماً قياسية في جميع أنحاء العالم ومنها مصر، وهكذا نجد أن أفلام العنف اقتحمت عالم الجوائز، ما يعني الاعتراف بوجودها. وقد أكد عدد كبير من النقاد الفرنسيين والبريطانيين استياءهم لمنح هذا الفيلم كل هذه الجوائز، معلنين أن السينما الأميركية تعتمد في أفلامها بصورة رئيسية على العنف والجنس، في إشارة صريحة إلى فيلم «غريزة أساسية» الذي قام ببطولته مايكل دوغلاس وشارون ستون. وقد وصفه النقاد بأنه فيلم جريء لاحتوائه على مشاهد جنسية أساسية، نظراً إلى أنه يناقش مشكلة الشذوذ الجنسي. وقد ساهم في زيادة شهرة الممثلة الأميركية شارون ستون، في حين لم يضف ذلك إلى رصيد دوغلاس.
تيمة الرومانسية
وفي المقابل، يرى النقاد أن الرومانسية لم تنته وستظل، لأنها تتفق وجوهر الإنسان، الذي يميل دائماً إلى الأحاسيس والمشاعر الرقيقة والدافئة، ولكن للأسف تاهت الرومانسية في زحمة الحياة، ولاتزال غالبية المشاهدين تفضل الرومانسية وتنبذ العنف على رغم ما تقوم به سينما العنف في التنفيس عن المشاهدين من الكبت والقمع، الذي يقع سواء من السلطة، أو من الضغوط والظروف المجتمعية القاسية التي يتعرض لها بدليل النجاح الساحق، الذي حققه فيلم «تيتانك» وتحطيمه كل أرقام الإيرادات في السينما العالمية، أما الممثلون فلهم رأي آخر؛ فيرى الممثل العالمي مايكل دوغلاس أن التركيز على نوع واحد أو نمط باعتدال ومن دون إسراف أو مغالاة. وعلى الجانب الآخر، برزت السينما الصينية في الأعوام الماضية بأفلامها المتميزة، فبعد أن كانت متهمة بتركيزها على العنف الزائد عن الحد، أصبحت هناك أفلام رومانسية استطاعت أن تحوز على إعجاب العالم في مهرجان «كان» بفوز أحد أفلامها منذ ثلاثة أعوام بجائزة أحسن فيلم وجائزة أحسن ممثل وممثلة، وقد أرجع أحد المخرجين العالميين السبب في هذا التفوق للأفلام الصينية في الفترة الأخيرة في المهرجانات العالمية إلى حرية التناول والتركيز على القضايا الأساسية في المجتمع ونبذ العنف غير الضروري في الأفلام.
كبش الفداء
كما أن هناك اتهامات توجه إلى السينما على أنها السبب المباشر في إفساد الشباب وسلوكه الإجرامي لتحقيق طموحاته ورغباته والتعبير عن نفسه، وذلك من خلال عرض أفلام العصابات والأفلام البوليسية وأفلام العنف. واعتبر كثير من العلماء أن إجرام الشباب قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها نتيجة للسينما وتقليده لما يعرض على الشاشة من طريقة استعمال المسدسات والتخلص من الخصوم بطريقة عنيفة، ما يثير لدى الشباب الصدمات العصبية ونجد آثارها على كثير من المجرمين على رغم أن هناك اتفاق يكاد يكون تاماً بين علماء النفس الذين قاموا بدراسات عن تأثير سينما العنف على الشباب والأطفال، وكشفت هذه الدراسات أن السينما نادراً ما تكون سبباً في انحراف الصغار، لأن الشباب المنحرف لم يصبح أكثر انحرافاً، مما كان عليه قبل ظهور السينما. على أن السينما أصبحت كبش فداء سهل، والعكس هو الصحيح وهو أن السينما تحفظ الصغار بعيدا عن الشر. ويرى البعض أن الرغبة في إرضاء الجمهور أدت إلى استمرار إنتاج هذه الأفلام، وعلى رغم اتفاقنا واختلافنا مع المقولات السابقة فإن سينما العنف أصبحت تشغل حيزاً كبيراً من واقع السينما العالمية، وهذه حقيقة لا جدال فيها وتأثيرها على سلوك الصغار والشباب مهما كان حجمه يستلزم إعادة نظر وتقييم لحال السينما حتى لا تفقد جمالها واضعين في الاعتبار أن السينما صناعة كأي صناعة أخرى تتأثر بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، التي تسود في مرحلة ما وان انفصالها عن الواقع مستحيل مهما كان هذا الواقع?
العدد 1574 - الأربعاء 27 ديسمبر 2006م الموافق 06 ذي الحجة 1427هـ