العدد 1574 - الأربعاء 27 ديسمبر 2006م الموافق 06 ذي الحجة 1427هـ

ليس دائماً ينقلب السحر على الساحر

«الساحر» في سينما السيف

فيلم الساحر (ILLUSIONIST) الذي يعرض حالياً في سينما السيف يعتمد على خدعة لايكتشفها المشاهد إلا في اللقطات الأخيرة. والاكتشاف يتم في وقت واحد مع رئيس الشرطة الذي انخدع بالساحر وحركاته وموهبته فتورط في سيناريو قاده الى الطريق الخطأ. نهاية الفيلم تقلب المشاهد رأساً على عقب. ولعل المخرج تعمد اللجوء الى سيناريو مخادع حتى يتطابق موضوع الشريط السينمائي مع خدعة المشاهد.

يبدأ المخرج في فيينا في القرن التاسع عشر في وقت كانت تمر فيه الامبراطورية النمسوية - الهنغارية في ظرف متهالك وتحيط بها مخاطر التفكك والانقسام والتمزق. وفي مثل هذه الاجواء تنمو عادة الدسائس والمؤامرات والمخاوف والشكوك. ودائماً تظهر في محيط هذه الفضاءات المضطربة معتقدات تعظم من الخرافات وذلك تهرباً من الواقع وبحثاً عن ملاذ وهمي ينقذ الناس من مستقبل مجهول ومظلم.

في هذه الفترة الانتقالية يظهر صبي صغير على شاشة فيينا. فهذا الولد كان يتمتع بقدرات سحرية هائلة اعطته شهرة في وسط مدينة تبحث عن أوهام تريحها من انفعالات السياسة ومراقبة المخابرات. وبسبب تمتع هذا الولد بتلك الخوارق التي نجح في توظيفها في حركات سريعة ومجموعة خدع انجذبت اليه أميرة (دوقية) من أمراء القصر. فهذه الفتاة الصغيرة انجذبت اليه وشدها نحوه ذاك السحر المجبول بتلك الجمالية الخاصة التي يتمتع بها الصبي اللطيف.

إلا أن التقارب هذا بين الدوقية والساحر الصغير اعترضه ذاك التفاوت الطبقي بين الفتاة والصبي. فهي أميرة جميلة وأسرتها تعتبر من أعمدة النظام وهو مجرد فلاح ينتمي الى أسرة فقيرة ومهمشة. الا أن ارتباط الحب شكل قوة جذب بينهما كان من الصعب فكه من دون استخدام السلطة نفوذها لمنع التواصل بينهما. وهذا ماحصل، إذ خطفت الفتاة وأعيدت الى أهلها بينما الصبي تمكن من الهرب وتاه في العالم يجول فيه متنقلاً بين براغ وآسيا الوسطى والصين ودول الشرق مدة 15 عاماً. بعد هذه الفترة الطويلة يعود الساحر الوسيم الى فيينا باسم مستعار وشكل مختلف. ويبدأ عمله في مسرح يقدم فيه يومياً حفلة خداع للجمهور الذي اندهش بتلك الألاعيب والقدرات الخارقة الى درجة التصديق. فالساحر الشاب اكتسب خبرات من رحلته الطويلة وتمكن من تطوير تكتيكاته الى مستوى بارع في تقنيته.

وصلت شهرة الساحر وقدراته وامكاناته الى السلطة العليا من خلال تقارير اجهزة المخابرات وملاحقات الشرطة. وبسبب قدرة الساحر الشاب على إقناع المشاهدين بصحة تقنياته تشكل في المدينة ما يشبه التيار المؤيد لهذا النوع من الخدع والأوهام. وهنا اضطرت الشرطة إلى التدخل بتحريض من السلطات العليا؛ لأنها وجدت في حركاته محاولات خفية تهدد «النظام العام» وتشيع الشعوذة وتعطل إمكانات تطور العلوم التي تعتمد على المعرفة العقلانية.

هذه النقطة مهمة في الفيلم؛ لأنها ستشكل ذاك المدخل لنمو الصراع بين السلطة والساحر. فالسلطة اعتبرت السحر شعوذة يؤسس الساحر من خلال الأوهام والخدع سلطة موازية تجرف معها الشباب والعقول وتدفع الناس إلى قناعات زائفة وتصبح مشاعرهم قابلة للتحريك باتجاهات خاطئة تميل إلى تصديق الأكاذيب والحركات البهلوانية، بينما الساحر اعتبر أنه يخوض معركة من نوع آخر تعتمد الذكاء والخفة والقدرة على الإقناع وترويض عقول الناس من خلال الخدع والأوهام.

سلطة موازية

أدى اختلاف وجهات النظر إلى حصول مطاردة خفية من قبل الشرطة لمعرفة هوية هذا الساحر ومن أين جاء وما هي أهدافه وماذا يريد من وراء نشاطه اليومي في المسرح؟

وبسبب شهرته تأتي الأميرة (الدوقية) - التي أصبحت الآن شابة في عمر الزواج - إلى المسرح لحضور الحفلة.

وتكتشف أن الساحر الشاب ما هو إلا ذاك الصبي الصغير الذي سحرها في طفولتها. وهكذا تعود القصة إلى نقطة البداية ويبدأ الارتباط العفوي السابق بالتجدد بين الأميرة والساحر.

هذا الارتباط الخفي الذي راقبته الشرطة ولاحقته زعزع الاستقرار بين السلطة ونشاط الساحر. فالمسألة الآن لم تعد الخوف من الشعوذة كقوة منافسة في الشارع وإنما منع الساحر من الاقتراب من الدوقية التي تستعد للزواج من ولي عهد الامبراطورية.

حتى الآن الفيلم عادي ولا جديد فيه سوى تلك الملابسات بين رواية الشريط السينمائي والحقيقة التاريخية. فهل القصة مختلقة وتم اختراع الفترة الزمنية لإعطاء ذاك الطابع الواقعي لحوادث الفيلم أم هي صحيحة وجرى اعتماد مادتها استناداً إلى وثائق الشرطة في متحف فيينا؟ كل هذا ليس مهماً في اعتبار أن المخرج لجأ إلى خداع المشاهد من خلال رواية تلك العلاقة المتأزمة بين السلطة والساحر. فالسلطة تريد تمزيق علاقة الحب وفك الارتباط بين الفتاة والشاب. والساحر يقاوم ويحاول أن يجد ذاك الطريق الذي يؤمن له علاقة زوجية مستقرة مع فتاة أحلامه. وبسبب هذه الازدواجية يتعاطف المشاهد مع الساحر الذي اتهم بالشعوذة وزعزعة الاستقرار والتأثير على النظام العام لمنعه من الزواج من ثرية تنتمي إلى الأسرة الحاكمة.

حبكة المخرج كانت ذكية؛ لأن ما تبقى من القصة يتحول إلى لقطات بوليسية تُقتل فيها الأميرة في حادث يتهم فيه ابن الامبراطور، وتنخدع الشرطة بالمسألة وتصدق الساحر الذي أشاع هذه التهمة من خلال عروضه اليومية على المسرح. وهي عروض أقنعت الناس بالتهمة كذلك رئيس الشرطة الذي رفع تقريره إلى الامبراطور بشأن ملابسات قتل الأميرة.

النهاية كانت مأسوية بالنسبة إلى الأمير الذي وقع ضحية الساحر وانخداع رئيس الشرطة به. بينما الساحر يظهر في مكان ما إلى جانب الأميرة التي هربت خفية إلى الريف باتفاق مع حبيبها «المشعوذ» الذي اختلق كل تلك الأوهام لإلصاق تهمة القتل بالأمير وإقناع رئيس الشرطة بالأمر بينما الواقع هو أن الأميرة لاتزال على قيد الحياة وهي رتبت كل سيناريو الملاحقة وإطلاق الرصاص وترك البصمات بالتفاهم مع الساحر لاتهام الطرف البريء بالمسئولية.

أليس هذا هو السحر؟ الفيلم فعلاً انتهى نهاية لا يتوقعها المشاهد، إذ لم ينقلب السحر على الساحر بل حصل العكس. والمخرج بهذه النهاية وجّه رسالة قوية وهي أن السينما خدعة أيضاً. فهي سحر وخفة حركات ولقطات وصور يظنها المشاهد حقيقية بينما في الواقع ليست كذلك. إنها مجرد سحر?

العدد 1574 - الأربعاء 27 ديسمبر 2006م الموافق 06 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً