العدد 4011 - الجمعة 30 أغسطس 2013م الموافق 23 شوال 1434هـ

يا ابن الجرَّاح أنتَ أحرصُ على الفتنة منهم

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في الثاني والعشرين من يوليو/ تموز الماضي، كَتَبتُ عن تعرُّض رسَّام الكاريكاتير الفلسطيني المبدع الشهيد ناجي العلي لمحاولة اغتيال في لندن العام 1987. وفي يوم الخميس الماضي، أي التاسع والعشرين من أغسطس/ آب، صادف ذكرى رحيل العلي، بعد أن قَضَى في غيبوبة قهرية مدة شهر وأسبوع تقريباً، كان مُحبُّوه، قد تمنَّوا عليه أن ينهَض من كومته، لكن إصراره على «الشهادة» جَعَله يتمترس في قبره بلندن كي يمهر أرض آرثر جيمس بلفور بـ «خطيئة العصر» التي ارتكبها الانجليز بحق العرب والمسلمين والمسيحيين، بل البشرية.

ورغم أن هذه المناسبة، مدعاة لنعي الفقيد (كما يُفعَل عادة) إلاَّ أننا تعلَّمنا منه، أن لا نوظِّف الذكريات المؤلمة إلاَّ كبداية للحديث عند نقطة ما انتهى إليه صاحب المناسبة بدل النعي. والحقيقة، أن نهاية ناجي العلي، كانت بداية «جديدة» لقضيته وقضية الإنسان في هذه الأرض. وربما اعتقدَ كثيرون أن تلك القضية هي فلسطين وحَسْب، لكن الحقيقة أنها تتمثل في قضية التعبير الصادق عن الرأي، التي تَمَثَّلها ناجي بأقصى سرعتها وأشكالها، وهو يعيش في أتون قضية شائكة دامية.

إن ريشة ناجي لم تُعلِّمنا فقط، كيف تُمسَح بالقرطاس، وكيف يُميِّلها على هذا الجزء أو ذاك، بل علَّمتنا كيف يُوجهها أيضاً، وكيف يطبع قضيته عليها. لقد كانت الطريقة التي يُعبِّر فيها ناجي غاية في الإتقان والإبداع. وكثيراً ما كان يكتنفها الغموض بالنسبة لمن هم خارج النطاق، إلاَّ أنها كانت تصِل كالسهم لمن يعنيهم الأمر. لذا، كان كلما كَسَبَ حَجَرَ نردٍ في قضيته، زادَ أعداؤه وكارهوه، حتى صُفِّيَ جَسَده النحيل، وخُضِّبَ وجهه الشاحب بدمه. تخيَّلوا، أن دولاً وأنظمة لم تتحمَّل النظر لكاريكاتير وتعليق ناقد!

أكثر ما يُثير الاستغراب في جزءٍ كبير من عالمنا العربي، أن التعبير عن الرأي بأشكاله المتعددة، لم يعد أمراً عادياً فقط كي نتمناه تميُّزاً، بل أصبح دون ذلك بكثير. لقد باتت الأقلام، تكتب/ ترسم لا لِغَرض التصويب، ولا التقويم، بل كفروض طاعةٍ والتماسات، والأخطر، تشجيعاً على ممارسة سياسات ظالِمة لا يُرتَجَى منها سوى ضياع الحقوق، وفقدان النور، ومُراكمة المشاكل. وهل في غير ذلك انتفاعٌ خاص، أو طَلب حظوة ومنزلة؟

تُشجَّع الأنظمة (بالأقلام والكلمات) على الانتهاكات، وعلى الغِلظَة، وعلى تقريب الدنيء وإبعاد الشريف، وعلى الإيغال في الدماء، وعلى إضعاف الحالة الإنسانية فيها، إلى الحدِّ الذي ينزع عن بصيرتها أي طريق، تنمو فيه الألفة والرحمة والتسامح. وكأن العالَم كله اختصار للمنافع الشخصية، حتى ولو أبيدت الأرض ومَنْ عليها، وتعالت الصرخات.

إن معاشر الحكام ما هم إلاَّ بشَر، لهم آذان يسمعون بها، وعيون ينظرون بها، وأفواه يتحدثون بها. لذا، هم يتأثرون بالكلمة والصورة (بالتأكيد هذا لا يعفيهم من مسئولياتهم، وتطبيق: آلة الرئاسة سِعة الصدر). وإذا ما وَجَدوا مَنْ يُحرِّضهم على الغلو في الفعل الخاطئ، عبر الكلمة الموبوءة، والصورة المسمومة، اندفعوا (وخصوصاً ضعاف الرأي منهم) نحو فِعلِهم السيء. وما بين تلك الكلمة وهذا الفعل دماء تُسفك.

وقد ذكر عيسى بن علي في كتاب «زهر الآداب»، كيف يُفسَد الحُكَّام، حيث قال: مازال المنصور يُشاورنا في أمرِهِ حتى قال إبراهيم بن هَرمة فيه:

إِذا ما أَرادَ الأَمرَ ناجَى ضَميرَهُ.... فَناجَى ضَميراً غَيرَ مُختلِفِ العَقلِ

وَلَم يُشرِكِ الأدنين في جُلِّ أَمرِهِ.... إِذا اختَلَفَت بالأضعَفين قوى الحَبلِ

نعم، هناك قِيَم أصيلة، يجب على أصحاب الكلمة والقلم توخيها. فحين يكون هناك ما يستوجب الإشادة فما يمنع من ذلك شيء، حتى وإن صَدَرَ ذلك في حق حاكمٍ ظالم. لكن، عندما يتطلب الأمر النصح، أو النقد المُغلَّظ أو الاعتراض، فلا شيء يمنعه أيضاً، وإلاَّ أصبح الحاكم لا يُحس إلاَّ بمشاعره، ولا يسمع إلاَّ صداه. ولم تعد هناك سلطة رابعة، ولا سلطة معنوية، تراقب العمل التنفيذي ولا وظائف الدولة ولا هم يحزنون.

نعم، يستطيع مَنْ له دراية بالتاريخ، والدِّين وسفسطة الأمور، أن يُكيِّف كل شيء ويُجَمِّله، ويقدمه لآذان وقلوب أصحاب الحكم، حتى لَيُخيَّل لهم، أنهم على الجادَّة. وهذا الفعل، هو من أشدّ الأفعال دناءةً ووضاعةً، حيث نهى عنه الدين وعَافَتهُ المروءة. والتاريخ مليء بهذه النماذج التي بيَّنَت كيف سالَت دماءٌ وانتُهِكَت حرمات، على وقع قولٍ هنا، وكلمة هناك.

بالتأكيد، لا يمنع هذا (كما أشرت) الحاكمَ من أن لا يكون بالسذاجة التي تجعله ألعوبة بيد مَنْ يسرُّ إليه تحريضاً ووشاية، بل عليه مسئولية انتقاء الرأي الذي يسمعه. وكم من رأي فاسد قُدِّم من متزلِّف، كان له وقعٌ سيء على الحكم ومصير الدول، والعكس صحيح، فـ «الرأي كله في الأناة والعجلة فيها ما فيها»، كما قال أصحاب الرأي الحصيف والدراية.

وقد جاء في كتاب «الكامل في التاريخ»، أن الجرَّاح بن عبدالله والِي خراسان كَتَبَ إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز: إني قَدمتُ خراسانَ فوجدتُ قوماً قد أبْطَرَتهُم الفتنة، فهم ينزُّون فيها نزواً، أحب الأمور ِ إليهم أن تعودَ ليمنعوا حقَّ الله عليهم، فليسَ يكفيهم إلاَّ السَّيف والسَّوط، وكرهتُ الإقدامَ على ذلك إلاَّ بإذنك.

فكتبَ إليه عمر: يا ابن الجرَّاح، أنتَ أحرصُ على الفتنة منهم. لا تضربنَّ مؤمناً، ولا مُعاهِداً سوطاً إلاَّ بالحق. واحذر القصاص، فإنك صائرٌ إلى مَنْ يعلَم خائنة الأعينِ وما تُخفِي الصدور.

خلاصة القول، أن الكلمة ليست حروفاً فقط، بل هي مُفضَيات إلى سلوك وفعل. ومتى كانت الكلمة حَسَنة متسامحة، كان الفعل على أثيرها يسير، والعكس.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4011 - الجمعة 30 أغسطس 2013م الموافق 23 شوال 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 6:00 ص

      يابن الجراح

      ما يصير!! الحين هو اسمه الجراح بن عبد الله، ويقول ليه يابن الجراح!!!؟؟

    • زائر 2 | 2:21 ص

      من هم وراء القضبان كانوا ضحية هؤلاء

      القساوسة في العصور الوسطى منحو الطغاة صكوك القتل بحق أكثر الناس علما وهي اليوم تتكرر عندنا ايضاً . ترى كم يقبع في السجون من هم أِشراف الأمة وتقاتها فقط لان الأقلام قالت فيهم الباطل

اقرأ ايضاً