العدد 4515 - الجمعة 16 يناير 2015م الموافق 25 ربيع الاول 1436هـ

«جمالية الشعر... عنصرية الشاعر»!

سعيد عقل
سعيد عقل

الشعر، والفن عموماً، صيغة من صيغ النظر إلى العالم أولاً، وصيغة للتعاطي مع الإنسان. أن تكتب... أن تبدع، ذلك يعني أنك تخاطب كائناً؛ أو تتوجّه إلى مخلوق؛ وليس أي مخلوق. هو بالدرجة الأولى: الإنسان. متى ما انفصل كل ذلك عن الإنسان، فأنت لم تبرح دائرة العبث. الإنسان جاء إلى هذا العالم، وضمن مهماته، أن يضع حداً للعبث. وأكبر صور العبث تلك، وأحطّها قدراً، ألاَّ ترى سواك، ولا ترى سوى الذين تنتمي إليهم، وما عداك، مخلوقات لا تستحق الحياة، في نظرة عنصرية وفاشية، وسلوك شاذ.

حين يتورط الذين هم على ارتباط بكل ذلك: الشعر والفنون على اختلاف ألوانها، وأساليب تعبيرها، فنحن أمام معضلة، وحين نفصل بين نظرتهم وسلوكهم العنصري، وما ينجزون من أعمال، فنحن أمام معضلات كبرى.

هذه الكتابة، وضمن عنوان عريض: «الفصل بين نص الشاعر وإنسانيته»، تأتي بعد اللغط الذي دار في مناسبة تكريم «الشاعر» اللبناني سعيد عقل، بعد أسبوع من رحيله، وقيام دعوات يراد لها أن تروج، بالتعامل مع عقل باعتباره شاعراً بغضّ النظر عن مواقفه العنصرية، ودعواته الصريحة، وتحريضه على إبادة الفلسطينيين بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982. ويراد بترويج تلك الدعوات استباق مواقف تنشأ هنا، وتهيمن هناك، بعيداً عن المساءلة والقانون، والتعاطي معها باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من حرية التعبير، وحرية خيارات الإنسان في مواقفه، ولو كانت مثل تلك الخيارات والمواقف دعوات إلى إبادة جماعية.

لعبة الفصل

وهنا علينا أن نعرف، أن الذين يفصلون نص الشاعر، أو أي متعاطٍ وممتهن للكتابة، عن مواقف العار والعنصرية والتحريض والدعوة إلى القتل والإبادة، و «تطهير» العالم، عالمه، ممن لا يحب ويغيظه أن يكونوا أحياء؛ هم بوعي أو من دون وعي شركاء في ذلك العار والعنصرية والتحريض والدعوة إلى القتل والإبادة؛ سواء قلّ دور أولئك الشركاء أم كثر.

محاولة الفصل بين الشاعر وموقفه اللاأخلاقي، هي محاولة لتمرير ما نشهد اليوم من المطابق لتلك النماذج، لتصبح مع مرور الوقت جزءاً لا يتجزأ من الحياة وواقعها المريض أساساً، ليأتي أولئك بمثل تلك الدعوات ليدخلوا الحياة في مرحلة حرجة من الغياب والغيبوبة التامة للشرف والضمير؛ وحتى ما تبقى منه.

كل ذلك من أجل أن نتعايش مع مثل تلك النماذج، قبل أن نتعايش مع مثل تلك الأطروحات التي لا يمكن لنفس بشرية أن تتصالح معها، وتصمت عن فجورها المغلّف بالظاهر من «تقبّل الآخر»، وقد نسوا وتناسوا أن من بين الآخر ذاك من اتخذ مثل تلك المواقف وتصدّر تلك الدعوات.

سعيد عقل، رحل عن العالم من دون أن يشعر بذرّة ندم على ما مارسه من تحريض، ضد الوجود الفلسطيني، واصطفافه مع قوات الكيان الصهيوني التي اجتاحت لبنان في العام 1982. لا يمكن التعاطي مع مثل ذلك الشخص باعتباره إنساناً؛ علاوة على التعاطي معه باعتباره شاعراً؛ بل وأحد أهم الأصوات الشعرية في القرن العشرين، والقرن الذي نعايشه. نحن أمام شخص اسْتُلّ من الشعور أساساً، بمواقفه التي لا تقبل التأويل وقد تم توثيقها بالصوت والصورة، حين دعا بكل حماسة وانهيار أعصاب إلى إبادة الفلسطينيين، وتطهير العالم منهم! ووجّه دعوته إلى من؟ إلى السفاح والإرهابي الذي وجد فيه مثله الأعلى: مناحيم بيغن، وذلك في العام 1982، في ذروة القصف المجنون والهمجي على بيروت إبّان الاجتياح، ولم يخجل حين «التمس» من السفاح أن يسهم في ذلك الدور «الطهراني»! وأطلق على الجيش الصهيوني جيش الخلاص! وهدّد (عقل) بقطع رأس كل من يطلق على الجيش الإسرائيلي مسمّى جيش احتلال أو يمارس الغزو!: «البيقول جيش غزو بدو قص راس... هيدا جيش خلاص»!

الخلاص بيد السفَّاح

يبدأ سعيد عقل من رئيس وزراء الكيان الصهيوني وقتها (مناحيم بيغن) في عملية التزكية تلك، والبحث عن الخلاصية على يد واحد من أكبر سفاحي القرن ممن يرأسون دولاً، ويتمتعون بعضوية في الأمم المتحدة ومؤسساتها. بيغن السفاح والإرهابي الذي لم يختلف على دمويته ضمير حر في العالم، وحتى أولئك الذين بنصف ضمير، يجد فيه الشاعر عقل عنواناً ومضموناً للخلاصية التي يبحث عنها، ولن تتحقق مثل تلك الخلاصية إلا بمزيد من المجازر ضد الفلسطينيين، ومزيد من بحور دمائهم. هو نفسه الذي دافع عن بيغن بالقول: «بيغن عم يسحق راس الحيّة الفلسطينية»! ماذا بعد؟ ليست المشكلة في أنه يحرّض على إبادة الفلسطينيين، بل يرى الكيان الصهيوني وجيشه ضرورة لحماية لبنان، وحماية بشره، حاصراً البشر في نفسه والذين انتخب وقرر أنهم يستحقون الحياة. إذاً ما الذي يمكن أن نفهم من هذه الهستيريا؟ «أول ما فات الجيش (الإسرائيلياني) على لبنان كان لازم كل لبنان يقوم يقاتل معو». وأيضاً «أنا لوعندي تنظيم حربي هلق (الآن) كنت بقوم قاتل مع الجيش الإسرائيلي».

يكفي عبوراً على مقالة الكاتب اللبناني فيصل جلّول، التي جاءت تحت عنوان «سعيد عقل مات عنصرياً يحتقر العرب ولسانهم...»، والمنشور في صحيفة «رأي اليوم» الالكترونية، بمناسبة تكريم عقل بعد أسبوع من وفاته، ودعوة بعض المتداخلين إلى الفصل «بين عنصريته الصريحة وشعره»، ورد جلّول على مثل تلك الدعوات بالقول «بكلام آخر يجوز بحسب المكرِّمين أن تعذر جمالية الشعر عنصرية الشاعر وحقده وحثه على الإبادة الجماعية. ولعل هذه الانتقائية أشبه بأن يعفو قاضٍ عن مجرم لأنه عازف بيانو جيد، أو ناظم أشعار جميلة، أو يرتدي بدلة أرماني أنيقة...».

الفارق البسيط بين موقف عقل الذاهب إلى الحد الأقصى من المرض حد الوباء، أنه كان مباشراً وصريحاً. لكن كم من الأسماء العربية التي لا تبتعد كثيراً عن مثل تلك المواقف العنصرية، وإن كانت في حدود تكوينات المجتمعات التي تنتمي إليها؟ لا فارق البتة، بين من يبيح للمحتل أن يمارس إبادته ضد شعب أعزل، وبين من يدعو الدعوات نفسها، بعد اصطفافه مع المنظومة التي ترعاه، محرّضاً على ممارسة الدور نفسه، ولو تحدّدت الأدوار في صور دعوات لممارسة تمييز فاقع، وتعاطٍ عنصري مع بعض الفئات في المجتمع.

لا ضرورة للاعتذار

لم يرَ سعيد عقل ضرورة للاعتذار عن مثل تلك التصريحات والمواقف الفاشية ضد الفلسطينيين قبل رحيله، لأنه كان يرى نفسه بتلك المواقف يؤدي خدمة جليلة للبنان، وخدمة جليلة لتاريخه الشوفيني، الذي لم يخلُ أساساً من احتقار للعرب وللغة العربية، ولم ينجُ من هستيريته وانهياراته العصبية حتى شاعر العربية الأول، أبوالطيب المتنبي.

ما الذي استفاده الشعر العربي، وما الذي استفاده العرب، والمسلمون خصوصاً، حين غنّى لمكة؟ ما الذي استفاده العرب والمسلمون بانكبابه على الاطلاع ودراسة الإسلام وفقهه؟ وهو المسيحي الضليع في معرفته باللاهوت، سقط في درس الحب الذي كرّسته المسيحية كدين سماوي، والمحبة باعتبارها الهواء الذي لن تتحقق حياة لإنسان بعيداً عن هوائه (المحبة).

أكملوا المجزرة

بقي فقط أن نذكّر بواحدة من أكبر المجازر التي عرفها القرن العشرين، وهي مجزرة صبرا وشاتيلا، وما حدث فيها من فظائع هزّت الضمير العالمي من أقصاه إلى أقصاه، وقبل أن تسخن دماء القتلى كان سعيد عقل يرى ما حدث صورة من صور الإبداع، تماماً كما يختلي هو بنفسه في تجلّي الحالة الشعرية لديه «لقد أبدع أولادنا في صبرا وشاتيلا وعليهم أن يكملوا ...»، ونشر ذلك كمانشيت في صحيفة «لبنان» بتاريخ 17 ديسمبر/ كانون الأول 1982.

اللعنة على شعر هو في محصّلته نتاج طرف لا يستهزئ بحيوات الآخرين فحسب، وإنما يرى ضرورة أن يتم وضع حد لتلك الحياة، ليس باعتبار أولئك البشر فائضاً؛ بل باعتبارهم إساءة إلى الحياة، ومصدر تنجيس لها.

في نهاية المطاف، لن تصل جمالية الشعر الصادر من شاعر عنصري؛ إذ يتحول مثل ذلك الشعر إلى فخ يستدرج حيوات وقيماً وشرفاً، والدفع بالإنسان ليكون وقوداً لمحارق عربية عنصرية جديدة، وتحت عناوين ومسميات مختلفة!


لبنان

من أين يا ذا الذي استسمته أغصان من أين أنت فداك السرو والبان

إن كنت من غير أهلي لا تمر بنا أو لا فما ضاق بابن الجار جيران

ومن أنا لا تسل سمراء منبتها في ملتقى ما التقت شمس وشطآن

لي صخرة علقت بالنجم أسكنها طارت بها الكتب قالت تلك لبنان

توزعتها هموم المجد فهي هوى وكر العقابين تربى فيه عقبان

أهلي ويغلون يغدو الموت لعبتهم إذا تطلع صوب السفح عدوان

من حفنة وشذا أرز كفايتهم زنودهم إن تقل الأرض أوطان

هل جنة الله إلا حيثما هنئت عيناك كل اتساع بعد بهتان

هنا على شاطئ أو فوق عند ربا تفتح الفكر قلت الفكر نسيان

كنا ونبقى لأنا المؤمنون به وبعد فليسع الأبطال ميدان

سعيد عقل


لمين الهدية

لمين الهديي اللي جبتا عشيي

فستان المطرز وبلوزة مخملي ... لمين لمين

لمين الحراير لا تقولي

بمغازل الخاطر مشغولي

وبخبي وبخبي ويتعبني حبي

غنيي بقلبي والهوى بعينيي

بأحلى المواسم مزروعة

عالصباح الحالم عم توعى

وأسوارة وعقودي للحلى مرصودة

وشريطة معقودة عالغرة العسلية

سعيد عقل

الفصل بين عطاء المثقفين ومواقفهم الإنسانية والسياسية... هو عنوان الحملة التي انطلقت بعد وفاة الشاعر اللبناني سعيد عقل بأسبوع... أعدنا طرح السؤال على مثقفين بحرينيين فكانت تفاعلاتهم كما يلي:

لا يمكن فصل الذات عن أي منتج. الذات ليست منحصرة في الجانب الشعري فكاتب أي نص طبيعي تظهر لديه مجموعة مفارقات ومتناقضات، وتقييم الشاعر كإنسان لا يأتي على البعد الشعري فقط، إذ من الطبيعي أن تنعكس المواقف وخصوصاً إذا كانت ضد الإنسان وضد المجتمع والثقافة، فحين يكون لدي موقف من اللغة العربية أو موقف أني لبناني أو من القضية الفلسطينية، بناءاً على أشياء ذاتية، باعتقادي هذا الأمر يختزل الإنسان بشكل كبير وهذا بالطبع ينعكس على بعد الحرية لدى أي كاتب وأي منتج لخطاب شعري وبالخاصة حين يتطلع للمستقبل. الحرية جزء مهم في الكتابة الشعرية واللحظة التي تصادر فيها حرية المستقبِل وحرية الآخرين بناءً على تجربة ذاتية فإن ذلك ينعكس على المنتج.

النص دائماً يحمل كثير من الدلالات حول الأشخاص، ومؤشرات مواقفهم تظهر وتؤثر في النص وتضعف من حريته وبعده الإنساني، فلا يمكن أن أكون حر في موقف ما وليس كذلك في موقف آخر. وعموماً تناول تجربة الأديب الذي لا نتفق معه يجب ألا يكون بروح الانتقام أو العدائية لكن بروح النقد.

أحمد العجمي

شاعر

هذه القضية مثيرة للجدل والخلاف منذ زمن طويل. لا ينبغي النظر إلى الكاتب أو الفنان أو المفكر بوصفه ملاكاً أو قديساً أو كائناً معصوماً عن الخطأ. لكل إنسان أخطاؤه وعيوبه وشوائبه، وهو مسئول عنها. لكن في نظرتي إليه أهتم بإبداعه وما ينتجه من أعمال قد تكون فذة واستثنائية. أنا أحكم على إبداعه لا مواقفه وسلوكه وعلاقاته. قد أرفض بشكل قاطع مواقف وسلوكيات سعيد عقل أو سلفادور دالي أو جان جاك روسو، مثلاً لكن لا أستطيع أن أتجاهل نتاجاتهم الابداعية. إن ما يعنيني هو هذا النتاج أما المواقف فأرفضها وقد أحاربها... لذلك لا أميل إلى اتخاذ مواقف صارمة وحادة ونهائية تجاه أي مبدع.

أمين صالح

كاتب وروائي

العدد 4515 - الجمعة 16 يناير 2015م الموافق 25 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً