العدد 4671 - الأحد 21 يونيو 2015م الموافق 04 رمضان 1436هـ

الأحياء الموتى حين يكونون بلا ذاكرة!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

أكثر ما يحرص عليه الذين أمعنوا ويُمعنون في البشر تنكيلاً؛ بالقتل والتعذيب والتشريد ومصادرة الحقوق والوصول بحالات التمييز إلى أعلى درجاتها؛ أن يتم احتواء ذاكرة ضحاياهم، ومصادرتها، وإدخالها في مساحة من التغييب والعدم. ألاَّ شيء يدل عليها، وفي نهاية المطاف ألاَّ شيء يدل عليهم.

الذاكرة هي ما يدلُّ عليك. من دونها أنت لستَ أنتَ. تبدأ بأحدٍ سواك. كأنك وُلدتَ للتو. ولا معنى لتلك الولادة المتأخرة والبديلة من دون ذاكرة.

حين تُصادَر ذاكرتك، فأنت ملْكٌ لمن صادرها. يرى الحق في أن يملأها ويحشوها بما يريد، وما يناسبه؛ لا ما يناسبك أنت. ما يدل عليه؛ لا ما يدل عليك.

أنت في منفى عسير ومظلم وكئيب وجارح حين تكون بلا ذاكرة. كأن ذاكرتك وطن آخر؛ وإن كان صعباً أن تكون بديلاً لوطنك المعهود.

وفي الدلالة، الذاكرة: قدرتك على الإقناع من خلالها، بأن تناقضات الحياة جزء من واقعها أيضاً. شرط ألاَّ تتناقض ذاكرتك مع ما هو كائن ومُدبَّر ومصطنع، وما هو في ليل يعمل على نفي ما رأيتَ وشهدتَ وكنتَ جزءاً منه؛ سواءً كان لك أم عليك.

بذاكرتك تُحدِّد البدايات التي شكَّلتْكَ وصيَّرتْكَ وصهرتْ روحك ونفسيتك؛ وجعلت منك ندّاً للمضاد مما تلقِّمه لك أجهزة إعلام بطواقم منزوعة الخيار والإرادة والشرف؛ في تناول وترويج الحقيقة. الحقيقة المُعتَّم عليها، والمحاصرة بأكثر من تبرير، يبدأ بالحفاظ على اللُّحْمة الوطنية التي صارت «عظْماً»؛ ولا تنتهي ببعبع التهديد الذي يُراد له أن يُعمّر في الرؤوس الخِرَبة والفارغة!

حتى الأموات الذين يغادرون هذا العالم بشرف وعزة وكرامة، يحتفظون بذاكرتهم. المشكلة في الأحياء الموتى الذين فقدوا الذاكرة. نقول، الأحياء الموتى بسبب ألاَّ شيء يدل على أنهم أحياء بمعزل عن تلك الذاكرة. فالذين يغادرون هذا العالم بمواقفهم الشريفة تظل ذاكرتهم حاضرةً بالمواقف تلك، والخيار الذي حسموا نتيجته والمصير من ورائه، وثمة بشر لن ينسوا فعلاً جريئاً كذاك، وخياراً مُكلفاً مثله.

وكل ذاكرة في حضورها واتقادها، تظل الشاهد والشهيد. الشاهد على صاحبها؛ والشهيد على الذين يحضرون فعله وأثره وخياره اللافت.

كل هذا الارتهان لواقع تُستلب فيه الإرادات والخيارات، وحق الحياة بعيداً عن الشرط الذي لا يستقيم مع حق الإنسان في حياة حرَّة وكريمة؛ لا يعدو كونه تسليماً للذاكرة التي تحتفظ بكل الفظاعات والإهانات، ومع ذلك، لا تجد في ذلك تهديداً وانتقاصاً. مثل تلك الذاكرة شهادة صريحة على موت أصحابها حين لا يجدون في استعبادهم واستبعادهم أي ضيْر؛ أو ما يشير إلى انحطاطٍ في النظر إليهم؛ وتسخير لهم لتحقيق رفاهية الذين لا أثر لهم في صنع الحياة غير المصادرة والاختطاف والاستحواذ، وتهديد الحياة من مائها إلى ترابها وفضائها.

الذاكرة ليست يومياتٍ وأجزاءً من الثانية. إنها تاريخك المختزل، الذي سيترتَّب عليه حاضرك؛ ويتشكَّل مستقبلك. إذا انتهت فأنت صفْرٌ من التاريخ والحاضر، ومن العبث الحديث عن المستقبل.

وللذاكرة تقاطعاتها التي تصِل؛ وقدرتها على الحياد والانحياز أيضاً. في واقع يشتري الانحياز؛ ويروِّع الحياد؛ ولا يريد صلة تتسبَّب في قطع ممارساته، والتشويش على أهدافه. ولا مبالغة في القول، إن انخفاض سقف الذاكرة يكاد يكون بمثابة انخفاض السماء. لكل منا سماؤه. سماء أي منا جزء منها ذاكرته، فإذا انخفضت أو تلاشت، انخفضت وتلاشت سماؤه.

ولا خطاب يدحض محاولات تزوير ما يحدث، وتجميل القبح والبذاءات فيه، وتبرير ما يتراكم من فظاعات من دون ذاكرة. هي القيِّم على التصحيح، وكشف التجاوز، والإمعان في الكذب، وضخ أموال الأمة في منابع ومسارات الفساد كي يلتزم مساندته وتقديم حججه الواهية. وحدها الذاكرة التي لن يتمكنوا من اعتقالها؛ تلك ضمانة وحصانة ستظل مبعث قلق وجنون أيضاً. وذلك أمر مرجعه إلى صاحبها.

أمة... أفراد من دون ذاكرة؛ بطبيعة الحس؛ ليست/ ليسوا على خريطة الحركة في العالم. ليسوا هنا؛ ولم يكونوا يوماً حتى على مستوى المؤقت من الحضور: لم يكونوا بمستوى العابرين!

مُكلَّلٌ بالعز والفَخَار ذلك الذي لديه دليل من الذاكرة؛ يكون سبابة إدانة للذين عاثوا في الحياة فساداً؛ والذين أمعنوا تنكيلاً في البشر؛ بالقتل والتعذيب والتشريد ومصادرة الحقوق والوصول بحالات التمييز إلى أعلى درجاتها.

تُعتقل الذاكرة حين يسلمها صاحبها مع شهادة منه بأنها دخيلة عليه: لم يَرَ. لم يسمع. ولم يكن مستعداً للكلام بعد كل ذلك. ذلك اعتقال برسْم الرضا، وبرسْم الدعوة المفتوحة لشطب وإلغاء صاحبها، وما أكثرهم في يومنا هذا؛ وخصوصاً من الذين كنَّا نظنُّهم بشراً أحياء؛ فيما هم من سكَّان القبور!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4671 - الأحد 21 يونيو 2015م الموافق 04 رمضان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً