العدد 2335 - الإثنين 26 يناير 2009م الموافق 29 محرم 1430هـ

جوانب من الفكر الإداري المعاصر (2)

إن ما استعرضته مما أوضحه دركر يتضمن الجواب الوافي على ثلاث من المسائل الأربع التي أثرتها قبلاً في شأن صناعة القرار وهي:

-1 ماهية عناصر صناعة القرار.

-2 ماهية سمات القرارات الفعالة.

-3 سبيل الإدارة إلى تحسين مستوى صناعة القرار فيها. كما أنه يشتمل على بعض ما يتعلق بالجواب على المسألة الرابعة وهي: سبيل المدير إلى النجاح في جعل القرارات تنفذ من قبل الآخرين. والواقع أنه إذا كان من السهل أن نقرر أن على المدير الذي يبتغي النجاح في جعل القرارات تنفذ من قبل الآخرين أن ينظم بكفاية وفاعلية وأن يجعل الاتصال مع مرؤوسيه واضحاً لا لبس فيه، وأن يكون قادراً على ضمان رغبة مرؤوسيه في التعاون معه، فإن مسألة التطبيق شأن آخر. إن السعي لتحقيق النجاح في ذلك الشأن يتطلب من المدير أن يعي بعض الأمور المهمة مما يرتبط بالصعوبات والمشكلات التي قد تعترض جهود المدير ومساعيه، والتي كثيراً ما يغفل المديرون عن أخذها في الاعتبار فيفشلون في مساعيهم. وهذه الأمور يمكن، في ضوء ما أوردته «روز ماري ستيوارت» في كتابها «حقيقة الإدارة»، اجمالها فيما يلي:

- يقع كثير من المديرين في خطأ التقليل من أهمية الصعوبات الكامنة في الاتصال لدى نقلهم تعليماتهم إلى مرؤوسيهم في شأن ما يريدون منهم أن يعملوه أو في بيان أسبابه، أو لدى نقلهم رغباتهم في الحصول منهم على المعلومات التي يمكن الاعتماد عليها، ولذا فإنهم يستغربون عندما يجدون أن أفعالهم ودوافعهم لم تفهم على الوجه المطلوب أو أنه قد أسيء تفسيرها.

- قد يفشل المدير في إدراك الحاجة لكسب تعاون مرؤوسيه، أو أنه رغم إدراكه صعوبات مثل ذلك لا يفتش عن الدواء الناجع عن طريق أسلوب تبادل المشورة أو المشاركة في الأرباح أو توفير الحوافز كحل لمشكلة كسب تعاونهم. وواقع الأمر انه ليس هناك دليل على أن أياً منها هي الطلسم السحرية التي يبحث عنها كثيرون من المديرين... وانها على أفضل الوجوه قد تكون مفيدة حيث تكون علاقات الموظف بإدارته جيدة. ولذا فقد باءت بالفشل كثير من المحاولات لتنمية تعاون الموظفين لأنها قامت على افتراضات خاطئة عن حفز الموظف مشتقة من فلسفة خاطئة للإدارة.

- إن مشكلات ضمان الرغبة في التعاون تقف كتحد للإدارة.. وتحد لتوفير الظروف التي فيها يرغب العاملون في العمل ويتخذون منها منطلقاً لتعاونهم.

ومما لا شك فيه أن تبصر المديرين في هذه المشكلات والصعوبات ووعيهم لها، بالاضافة إلى إدراكهم جوهر ما نوه به «دركر» في هذا الخصوص، من شأنه أن يساعدهم على النجاح في جعل الآخرين ينفذون قراراتهم على النحو المطلوب.

إن أي دراسة للإدارة تكون قاصرة عن تحقيق أغراضها إن هي إغفلت أو تجاهلت مسألتين أساسيتين هما:

1) مسألة أوجه التباين (contrasts) في وظيفة المدير.

2) مسألة المشكلات التنظيمية التي تنطوي عليها عملية الإدارة.

والملاحظ أن ما يعرضه كتاب الإدارة حول هاتين المسألتين قليل وغير كافٍ. ان البحث في كلا الموضوعين أمر معقد. ومرد هذا التعقيد بالنسبة لمسألة أوجه التباين أن واقعها يختلف باختلاف أحوال المنظمة وحجمها وقواعد السلوك السائدة في الوسط الاجتماعي الذي تقوم فيه، وتختلف باختلاف الزمان والمكان، وتختلف باختلاف مرحلة النمو والتغير التي تمر فيها المنظمة... وما يتركه كل ذلك من تأثير في الطرق التي يفكر بها المدير ويعمل، وما يحدثه من تغييرات أساسية في وظيفة المدير وطبيعة مهمته. كذلك يعود التعقيد بالنسبة لمسألة المشكلات التنظيمية إلى تعددها من جهة، وإلى تعدد مصادرها من جهة ثانية... فمنها ما ينبثق عن العلاقات ما بين الأفراد والجماعات، ومنها ما ينجم عن محاولة الحفاظ على توازن جيد ما بين مزايا وعيوب الأشكال المختلفة للتنظيم، ومنها ما ينتج عن التغيرات المؤثرة في التنظيم. ولعل هذه التعقيدات هي التي لم تيسر لكثيرين من كتاب الإدارة تناول هاتين المسألتين بالعمق أو الشمول الكافي... ولعل السبب الحقيقي يعود أيضاً إلى ما لفتت «روز ماري ستيورات» الاهتمام إليه من كون اتباع النظريات في الإدارة قد بالغوا في تأكيد أوجه الشبه في وظيفة المدير، على حساب الاختلافات التي هي كثيرة وهامة. فما هي أوجه التباين في وظيفة المدير؟ وما هي المشكلات التنظيمية التي تنطوي عليها عملية الإدارة؟..

لقد أحسنت «روز ماري ستيورات» عندما أولت هذين الأمرين الاهتمام اللازم، وكشفت لدارسي الإدارة بالتحليل الجيد الكثير من خبايا الموضوع مما لا يجده الدارس في كثير من كتب الإدارة. ولقد بينت في كتابها «حقيقة الإدارة» ما يتركه واقع أوجه التباين من تأثير في الطرق التي يفكر بها المدير ويعمل وما تحدثه من تغيرات أساسية في وظيفة المدير وطبيعة مهمته. ويمكن تلخيص ما انتهت إليه في أربع عشرة نقطة، مدار الأربع الأولى منها «الإدارة والجو الاجتماعي»، والخمس التالية موضوع «الإدارة في المؤسسات الكبيرة» بينما تتعلق النقاط الباقية بموضوع «المدير والتغير»... ولنتأمل ما انتهت إليه في هذا الشأن.

رابعاً: أوجه التباين في وظيفة المدير

-1 حول «الإدارة والجو الاجتماعي»

-1 إن السبب في تفكير المديرين أو في تصرفهم يعود جزئياً إلى نوعيتهم كناس، كما يعود بدرجة أكبر إلى بيئتهم. وبيئتهم هي حصيلة تفاعل التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للبلاد التي يعملون فيها، بما في ذلك مرحلة التصنيع التي وصلتها، والوضع التجاري والاقتصادي الناتج في المجتمع، والمستويات الأخلاقية السائدة، والعلاقة ما بين الطبقات الاجتماعية، وقوة حركة الجماعات والنقابات العمالية، وعدد ونوعية الأنظمة الحكومية. ولذا فإن اتجاهات الموظفين والمستخدمين تستند أساساً إلى ما هو مألوف ومعتاد في زمانهم ومكانهم.

-2 إن الخلفية التعليمية والاجتماعية للمديرين تختلف بين بلد وآخر. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل نهج رجل الأعمال الفرنسي مثلاً يختلف عن نهج نظيره البريطاني، وتجعل نهج الاثنين يختلف عن نهج نظيرهما الياباني. وفي بعض البلدان لايزال للعائلة دور غالب، كما انه لايزال لخلفية المرء الاجتماعية تأثير كبير على فرصه ليكون مديراً. كذلك فإن خلفية المدير المهنية يمكن أن تؤثر في وجهة نظره في الإدارة.

-3 إن الكيفية التي تمارس بها الإدارة سلطتها تتباين عبر الزمان وعبر البلاد. ومن العوامل المؤثرة عمق الفجوة الاجتماعية القائمة ما بين الإدارة والمستخدمين. ففي بعض البلدان، لايزال المديرون يعاملون كأسياد من قبل مستخدميهم، في حين أدى تزايد التصنيع، في بلدان أخرى، إلى هبوط سلطة الإدارة نتيجة ارتفاع مستوى المعيشة من جهة، مما يساعد على تقليص المسافة ما بين الإدارة والمستخدمين؛ ولأن نقابات العمال وأنظمة الحكومة، من جهة ثانية، قد أخذت تحد من حرية الإدارة في التصرف. وفي بعض البلدان، أخذت الإدارة تتحول إلى إدارة تدير وفق أنظمة وقوانين محددة تكون ثمرة مفاوضات مع نقابات العمال أو موضوعة من قبل الحكومة، وفي بعضها الآخر، لاتزال الإدارة الرعوية (paternalistic) قائمة وذلك حسب العلاقة الطبقية الملائمة لها، بينما أخذت في الاضمحلال والزوال في بلدان أخرى.

-4 إن مواقف العمال والمستخدمين تجاه الإدارة هي استجابة للكيفية التي تمارس بها الإدارة سلطتها. وهي أيضاً انعكاس للبناء الاجتماعي. وهناك فروق في هذا الشأن ما بين الصناعات وما بين البلدان، وكذلك داخل بعض الأقطار عبر الفترات المختلفة من تاريخها. ويبدو أن بعض الصناعات معرضة للقلاقل والاضطرابات أكثر من غيرها، والأسباب في جوهرها أسباب اجتماعية.

-2 حول «الإدارة في المؤسسات الكبيرة»

-1 إن النمو المتواصل في عدد وحجم الشركات والمؤسسات الكبيرة يظهر أن بواعثه اقتصادية وأن فوائده تفوق عيوبه. غير أن المؤسسة الكبيرة تتصف بصعوبات موروثة لا مناص للمدير من مواجهتها، وتحقيق ذلك بنجاح يتطلب نوعية من المديرين أفضل مما هو موجود لدى المؤسسات الصغيرة. ومن حسن حظ المؤسسة الكبيرة أنها في وضع أفضل لتوظيف مثل هؤلاء الناس.

-2 من أكبر مشكلات المؤسسة الكبيرة الحجم كيفية منع الشعور باللامبالاة والاحساس بالاحباط والخيبة لدى العاملين فيها، من مديرين ومرؤوسين. ولقد يشعر الموظفون بأن ما يسهمون به لا يلقى بالاً، وأن ما من أحد يهتم بشأنهم. وقد يجدون أن من الصعب عليهم الربط بين ذواتهم ونجاح المؤسسة. كذلك قد يشعر المديرون بالخيبة لدى التأخر في اتخاذ القرارات، أو عندما تتسم الاتصالات في المؤسسة بالضعف. كما أنهم قد يشعرون بأنه ليست لديهم مسؤولية كافية بسبب عدد صفوف المراتب في بنية الإدارة من ناحية، ولكونهم يشعرون، من ناحية أخرى، بأنهم مبتلون بالاختصاصيين. وقد تكون حركة الترقية في العادة بطيئة، كما ان المديرين قد يجدون أنه من الصعب عليهم أن يحصلوا على الخبرة اللازمة للترقي للإدارة العليا عندما تكون مراكز الإدارة المتوسطة هي نفسها تتطلب اختصاصاً عالياً.

-3 إنه خلال الفترة التي تكون فيها المؤسسة في طور نمو، تأخذ الفجوة ما بين الإدارة والموظفين في الاتساع. وتظهر كثير من الدراسات انه كلما زاد عدد المستخدمين في مؤسسة، كلما أخذت المعنويات في الانخفاض مثلما تنعكس في معدلات ضياع الوقت وكثرة الاضرابات والاضطرابات والحوادث؛ وان الميل التقليدي في المؤسسات الكبيرة هو نحو التشدد (انعدام المرونة) والاهتمام المفرط بالشكليات الإدارية (الروتين) والتضخم (بناء الامبراطورية)، وهذه في جملتها أخطار قائمة ولكن يمكن التحكم فيها، إن لم يتيسر القضاء عليها. وان مستوى القصور الذاتي في المؤسسات الكبيرة يمكن أن يظل دوماً أعلى مما هو عليه في المؤسسة الصغيرة.

-4 ثمة مشكلات مشتركة يفرضها كبر حجم المؤسسات، إلا أن حدتها تكون أكبر في بعض المنظمات منها في غيرها. ومرد هذا التباين يعود إلى الكيفية التي صارت المنظمة بموجبها كبيرة. فإذا جاء كبرها نتيجة لسرعة في النمو كنتيجة لاندماج عدد من المنظمات أو بسبب توسع طبيعي، فإن مشكلاتها تكون أكبر من مشكلات منظمة نمت تدريجياً فتيسر لها أن تبني وأن تطور تقاليدها خلال مسيرتها.

5- لقد تيسر لبعض المؤسسات الكبيرة أن تتحكم في كثير من مشكلات الكبر والضخامة. ويعود ذلك إلى أن فلسفتها وسياساتها الإدارية تساعد على عدم جعل العاملين فيها يشعرون باللاأهمية أو عدم الاطمئنان والاحباط. كما أن الاهتمام الشخصي الواضح الذي يوليه المدير في بعض المنظمات لموظفيه بوسعه أن يفعل الكثير ليؤكد لهم أن «الرئيس» يهتم بهم فعلاً. كذلك فإن نوع التنظيم يمكن أن يساعد على منع الشعور بالتباعد. ولذلك يلزم، حيثما أمكن، أن تكون هناك الجماعات الصغيرة والمؤسسات الصغيرة والتنظيم اللامركزي.

-3حول «المدير والتغير»

-1 إن زيادة تكنولوجيا المعلومات يمكن أن تقلل من مدى الاجتهاد في إصدار الأحكام في مستوى الإدارة المتوسطة. وان التجديد يقتضي خلق مراكز جديدة للمديرين وللاختصاصيين.

-2 لا يمكن إحداث التغير اللازم إلا بتخطيط جيد. ومثل هذا التخطيط يجب أن يأخذ في الحساب التأثيرات الإنسانية التي قد تترتب على التغيير، وما يمكن عمله لتحقيق التكيف لمن يمسهم الأمر. وبوسع المديرين في سعيهم لتحقيق ذلك، أن ينتفعوا من معرفة الأسباب الرئيسية العامة التي تخلق مقاومة التغيير... ومن أهمها «الخوف». وفي كثير من الحالات، قد يكون الخوف لا مبرر له أو يكون ناجماً عن عدم اليقين أو سوء الفهم، وقد يكون بعضه انعكاساً لتخوفات الفرد غير الواعية التي يسببها ما يمكن أن يراه تهديداً لاطمئنانه وأمنه.

-3 تأتي مقاومة التغيير، في العادة، من المعيقات الاجتماعية وأهمها الانفصال ما بين المهن. والتغيير يمكن أن يحطم علاقات وطيدة كانت تقوم ما بين بعض المهن. وعلى مستوى الفرد، فإن هذا قد يعني نقصاناً في قيمة تدريبه وخبرته، وبالتالي هبوطاً في منزلته ومركزه. ولذلك فإن مقاومة التغيير كثيراً ما ترتبط بالأفكار المتعلقة بالمنزلة والمكانة. ومن العوائق الاجتماعية موقف البعض من مسألة الانتقال من أجل العمل من مكان إلى مكان، وعدم ميلهم إلى التنقل.

-4 إنه بالامكان عمل الكثير لانقاص مقاومة التغيير في جميع المستويات. إن التخطيط المتأني واسهام الموظفين أو ممثليهم في وضع تفصيلات الخطة التي تؤثر فيهم يمكن أن تفعل الكثير لكسب تعاون الموظفين. كما انه يلزم الاهتمام بطريقة عمل المنظمة حيث انها يمكن أن تكون مصدر اكتفاء أو عدم اكتفاء.

-5 إن التغير السريع بوسعه أن يغير من طبيعة وظيفة المدير جاعلاً إياها أقل ثباتاً من حيث المسؤوليات والمركز (المنزلة). والمدير الناجح هو الذي يتعلم كيف يعيش مع اشكالات الأمور المجهولة (اللايقين) التي يسببها التغير، وكيف يتقبلها برضا، وهو الذي يكون مستعداً لأن يبحث عن الطرق والبنية التي هي أكثر ملاءمة لوضعية المنظمة. وعندما يحدث خطأ ما في سير الأمور فإنه ينظر إلى الأسباب بدلاً من البحث عن ضحايا، ثم انه فوق هذا كله ينظر إلى التغير كفرصة متاحة للتعاون المغامرة الباحثة التي تشمل الجميع.

العدد 2335 - الإثنين 26 يناير 2009م الموافق 29 محرم 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً