العدد 1623 - الأربعاء 14 فبراير 2007م الموافق 26 محرم 1428هـ

هل نحن على أبواب عصـر اختفـاء الأديان؟

ديانة العصر

لعلّي من أكثر الناس انتقادا للأيديولوجيات و «المقدَّسات» بمعناها المؤدلج، الذي يتحكم بمصائر البلاد والعباد، ويُحوِّل البشر الى كائنات متصارعة متناحرة متنافرة، من خلال أديان وطوائف ومذاهب وملل ونحل، عَمِلَتْ على تفتيت العالم الى جُزر سياسية وأمنية، لا متناهية تقاتل بعضها بعضا، تحت شعارات تنفي الآخر وتحتقره، وأحيانا تكفّره وتُهدر دمه، الأمر الذي تتخذه «الدول الكبرى» ذريعة للسيطرة على مقدّرات الشعوب من خلال إرسال «حمامات سلامها» لتَسقُط على رؤوس الشعوب الفقيرة تلك، فتمطرهم صواريخ بحجة مكافحة الإرهاب ونشر السلام والأمان...

وبسبب تلك الظروف أمست بعض الدول أشبه ما تكون بمزارع تشبه الاقطاع وتحكمها شريعة الغاب، فَيرث الابن أباه في الاقطاع السياسي هذا ويستولي على الكرسي، فيقمع الداخل بالحديد والنار، وينصاع لسياسات الخارج كالنعاج، حتى يحافظ على كرسيّه الذي لا يغادره الا بقدرة قادر...

أمام هذا الوضع المزري يبحث المفكر لنفسه عن مخرج فكري للأزمات ويتساءل: هل يعدُّ الخروج على الايديولوجيات حلاّ ناجحا؟ وما هي البدائل؟ والسؤال الملح هو: هل يمكن لنا التخلُّص نهائيّا من الأيديولوجيات؟ وهل يمكن لنا حلّ الطوائف وتوحيد المذاهب؟ وهل يمكن للكائن الإنساني أن يحيا بلا مقدسات؟

هناك طروحات فكرية «حداثية» جديدة، هل لها أن تكون بديلا؟ وهل يمكن للفكر «الليبراليّ الماديّ» أن يوحّد البشرية ويقضي على الأيديولوجيات؟

الليبرالية الجديدة

هناك تيارات فكرية حاليّة تروِّج لخطاب ماديّ، اخترق الغرب اولا ثم هبّت رياحه الى الشرق، وفي مجموعه يقوم على ادعاء اختفاء الأيديولوجيات. مفكرون ذوو شأن يعلنون أنّ المواطن في الديمقراطية المتقدمة يكون غير قابل لفعل القولبة أو التنميط، وأن العقائد الماضية التي سادت انتهت، فقد انتهت الأيديولوجية البورجوازية، وكما انتهت المشاحنات والمجادلات بين الماركسية والمبشرين بالنزعة الاقتصادية الليبرالية، وأُقفل باب النقاش فإن الرأسمالية تُصدِّر الليبرالية إلى كل مكان في العالم، وتتطابق «الليبرالية الماديّة» مع الطبيعة العميقة للإنسان؟!

وقام بعض المفكرين بتقديم «المادية الليبرالية» كباب وحيد ونهائي للخلاص من التأثير البشع لـ «الأفكار المستوردة»، مع ما يرافق ذلك من مصطلحات «التقدم»، و «التكنولوجيا»، و «الاتصال»، و «السرعة» و»الحداثة».

غير أنَّ هذا الطرح «الليبرالي» المناهض للأيديولوجيات بحدّ ذاته يؤدي تشييد أيديولوجيا جديدة، فتصبح هذه الايديولوجية طرفا وطائفة ودينا قائما الى جانب بقية الطوائف والأديان والأفكار والمقدسات الأخرى الموجودة على الساحة العالمية، ويصبح شعار «الليبرالية» بحد ذاته ذاك «المقدس» الذي لا يمكن مسَّه، فيتحول الى العصا التي نقمع بها الآخرين...

إنَّ الليبرالية المطروحة علينا اليوم تُضفي على ذاتها أكثر من أي وقت مضى رداء إثبات بسيط لنظام الأشياء، وحيد وغير قابل للدحض. هكذا يُصرِّح آلان مينك من أجل الإنهاء الحاسم لأي نقد فيشير إلى أن «ليس الفكر، وإنما هو الواقع الذي يتصف بصفة الواحدية». إذا، لم يعد أيضا هناك أي مجال للتفكير: فالواقعي الآنيّ يكفي. والواقعة والقيمة لم يعودا يشكلان إلا شيئا واحدا.

ويقدّم لنا أرمان ماتلار مثالا عن هذه الظاهرة التي تعممت: «الكليانية واقعة، وهي أيضا أيديولوجيا: فاللفظ يخفي تعقد النظام العالمي الجديد بدلا من أن يكشف عنه».

فالشعارات الليبرالية المطروحة اليوم تُوقع الشعوب في فخ الكليانّية وتقبّل الامر بكليّاته فيصبح الشعار شموليّا، بما يستتبع ذلك من استراتيجيات هيمنة من خلال توحيد انماط الاستهلاك بين الشعوب.

إنّ ما يُوَاجِهُ شعوب العالم اليوم وتعاني منه هو سياسة «اختزال الكائن الإنساني»، فعندما يُختزل الكائن الإنساني بكلِّ أَبعادِهِ الفكريَّةِ والروحيَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة والحضاريَّة، بما فيها الأبعاد الميتافيزيقية (الغيبية) ويتحول الى كائن مادي اقتصادي مستهلك فقط، فإنَّ هذا الكائن يتحول الى رقمٍ مسطَّحٍ ذي بعدٍ واحدٍ على قائمة الاقتصاد العالمي ورقم في بورصَةِ الأسهم يتحكم بها المسيطر على المال.

والشعوب العربية وشعوب المنطقة تُواجه صراعات «اختزال الانسان» من أنواع شتى؛ فحركات الاسلام السياسي تختزل الإنسان بـ «المسلم الحركي» فقط، والفكر الشيعي المتشدد يختزل الانسان بـ «المسلم الشيعي» فقط، واليهودي المتطرف يمنح نفسه حق «الفوقية» على سائر البشر وأنه مميز وهو «شعب مختار» فيختزل الانسانية بـ «اليهود» فهم البشر وما سواهم في مرتبة دون ذلك، والليبراليون الجدد يختزلون الانسان بـ «الكائن المادي الاقتصادي»... إذا، ما نشهده اليوم هو سياسات متصارعة للاهوت المقدس على الارض يُغرق كوكب الارض في دوامّة عنف لا تنتهي.

ومن ثمّ تُقدَّم «الليبرالية» الى تلك الشعوب المتناحرة «المختزلَة» أصلا لتزيد اختزالَ الانسان اختزالا...

العدد 1623 - الأربعاء 14 فبراير 2007م الموافق 26 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً