كثيرا ما ارتبط الجنون بالفن، والموت في عالم من البؤس أطلق عليه عبقرية، هذه العلاقة القديمة ارتبطت بأذهان الناس، كثنائية تستحضر كلٌ الأخرى، وكما يقول المثل بين العبقرية والجنون شعرة، فهل يصح التوصيف السابق، فتتداخل لدينا مفاهيم مثل العبقرية والجنون؟ لست متأكدا من ذلك، لكن الأكيد أن الجنون حال من فقدان الاتزان العقلي، وأما العبقرية فهي الاستفادة القصوى من إمكانات العقل البشري.
ولعل مثال فان جوخ هذا الرسام العالمي، الذي قرر أن يقطع أذنه ويهديها لحبيبته أقرب لعلاقة العبقرية بالجنون، لكن الجنون أخذ عدة صيغ وأشكال، فالجنون سبب لنا مشكلة مع قبيلة ليلى العامرية، والجنون أيضا أثار البرلمان البحريني ضده في العمل المشترك لحداد ومارسيل، ولكنه أنشأ مبنى وجامعات تدرس هذه الحالات النفسية، إذا فالجنون مختلف ومتنوع، في حين أن العبقرية هي التفوق العقلي، وإن ترجمت في مواضع متعددة.
وللمصادفة حين كنت في الإقامة الجبرية بفندق الدولة الإلزامي، منذ العام 1995 حتى العام 1998 حاولت جاهدا قراءة الكتب التي تتناول موضوعات مختلفة، منها علم النفس، ولكني اكتشفت بعد عدة محاولات لتطبيق علم النفس، وإنزاله من النظرية إلى الواقع، أني جعلت من جميع النزلاء بما فيهم حضرتي مرضى، إذ لا يخلو أحد من مرض ما، غير أن تفاوت هذه النسبة هي ما يجعل الآخرين يطلقون عليك توصيف الجنون أم لا.
لست ضد الجنون، ولعل نيتشيه حصد ضريبته كذلك، حين أودع في مصحة عقلية العام 1889م، لتخرجه والدته العجوز منها، وكذلك هو الروائي باولو كويلو حين حسبه أبواه أنه مختل عقليا فأودعاه مصحة عقلية، وهناك نماذج كثيرة يمكن التماسها في هذا الموضوع، لكني لا أعرف كيف يمكن التعامل مع شخصية لها عبقرية الجنون في الوقت نفسه! وفي جانب آخر يتم تكريم هذه الشخصية بقتلها في عمل «مراسل» في إحدى الدوائر.
ربما هي طريقة جديدة للاحتفاء بالشخصيات الموهوبة، والقامات التي يمكنها أن تصنع الفخر لهذا البلد، يبدوا أننا مازلنا مصرين على أن العبقري يجب أن يموت متهما بالجنون، وفي إحدى الغرف الخلفية القذرة، ربما احتفاء بعبقريته وجنونه، وهو مصداق لما يجري مع شخصية مثل الكاتب والمسرحي عبدالله السعداوي، بعد أن قدم الكثير من عمره للفن، تكرمه الدولة بتهميشه، وهي مقاربة لاذعة لما توصل إليه ميشيل فوكو حين ختم كتابه «تاريخ الجنون»، بوصية أخيرة وثناء للجنون، هذا الجنون طبعا أعلى من أن يقف أمام محكمة العقل، خصوصا إذا كان عقل وزارة لا تنتبه لمبدعيها.
العدد 1707 - الأربعاء 09 مايو 2007م الموافق 21 ربيع الثاني 1428هـ