العدد 1777 - الأربعاء 18 يوليو 2007م الموافق 03 رجب 1428هـ

الكل يعرف المجرم ولا أحد يملك الدليل

بحثا عن المجهول «زودياك» على مدار ساعتين

على مدار أكثر من ساعتين يتحرك شريط «زودياك» (ZODIAC) بحثا عن مجرم مجهول ارتكب سلسلة حوادث قتل في لوس أنجليس بدءا من العام 1966 وحتى الآن لم تعرف دوائر الشرطة ولجان التحقيق الطرف الذي نفذ تلك الجرائم المتسلسلة.

الفيلم - الذي يُعرض الآن في سينما السيف - شيق ومثير ويحتاج إلى تركيز ذهني حتى يستطيع المشاهد متابعة سر ذاك اللغز المحير. من هو المجرم؟ الكل يعرف والكل لا يعرف. وكل الهيئات واللجان حددت الطرف المسئول والمستفيد ولكنها في الآن فشلت في إثبات التهمة أو تجميع الأدلة القاطعة التي تدين المجرم.

يبدأ المشهد الأول بجريمة قتل مزدوجة ارتكبت بإطلاق الرصاص في نهاية العام 1969 حين كانت المدينة تحتفل بأعياد الميلاد ورأس السنة. المشاهد لا يرى وجه القاتل لأن المخرج لا يعرف؛ لذلك تركزت الكاميرا على الضحايا. والضحايا - كما أظهر الشريط السينمائي - يعرفون القاتل بل هم على علاقة به ويثقون به. فالمجرم إذا قريب أو ساكن في الحي وعلى صلة بالضحايا ولا يشكون في ميله نحو القتل. ولكنه كما يظهر فعلها. ثم كررها وكررها. والشرطة لم تستطع أن تتوصل إلى طرف خيط يربط حلقات تلك السلسلة.

فجأة ينقلب المشهد حين يدخل المجرم في معركة تحدٍّ للشرطة ومراكز التحقيق الجنائية والصحافة. ففي مساء يوم واحد تصل إلى كل الصحف ومكاتب الإعلام والشرطة رسائلُ مشفرة (تشبه الكلمات المتقاطعة) توضح فيها الملابسات وتربط كل الجرائم التي وقعت في خط مشترك. فالمجهول تحدى الجميع أن يعرفوا من ارتكب تلك الجرائم على أنواعها. فهو يعترف بها وبغيرها ويصفها ويحدد ألوانها وأساليبها ثم يتحدى الكل إذا استطاعوا أن يصلوا إلى نتيجة.

التحدي أثار الانتباه وولّد مشكلة؛ لأن المجرم اشترط على الصحافة والإعلام نشر رسالته المشفرة وإذا لم يفعلا فسيُقدِم على قتل ضحية جديدة. وتضطر الأجهزة إلى نشر الرسالة الغامضة وتطلب من الخبراء تفكيك رموزها ومساعدة الشرطة على كشف المقصود منها وكيف تكون شخصية الطرف الذي أرسلها.

أهمية الفيلم أنه ينطلق من فكرة التحدي. فهو يصوّر الجريمة من جانب الضحية ويترك للمشاهد التفكير والتخمين كما هي حال الأجهزة والصحافة وشرطة الاستقصاء. فالجميع في حيرة وخصوصا حين يكرر المجهول أفعاله الشنيعة ويواصل سلسلة القتل. وهكذا تبدأ علاقة تبعية بين المجرم ولجان التحقيق. فالمجهول يتحدى ويبالغ في جرائمه ويستفز الجميع وكل القوى المسئولة تعيش حالات فزع وتوتر وضياع وتَكرار الفشل في تحديد الطرف المسئول.

تستمر المعركة الخفية سنوات من دون جدوى. والشرطة تبدأ الإمساك بخيوط الشبكة وتجمع المعلومات وتصل إلى معرفة اسمه وتحديد عنوانه ومكان عمله وتذهب إليه وتحقق معه وتلاحظ وجود تشابه بين شكله ومعالم الصورة وطريقة سيره وكلامه والساعة التي يحملها (زودياك) ولكنها تفشل في تأكيد التهمة وإثبات الإدانة. الكل مجمع على أنه هو القاتل ولكن ليس هناك من دليل على التهمة.

تمر الأيام وتتوالى السنوات من دون نتيجة. فالمجرم (المعلوم المجهول) موجود وكل الإشارات تدل عليه من دون دليل. ولهذا بدأ اليأس يدبّ بلجان التحقيق وأخذ رجالها يتهربون أو يستقيلون، وأخذ الشيب يغزو شعر الرأس وبدأت التجاعيد تظهر على الوجوه.

هذه المهمة المستحيلة دفعت الشرطة إلى إغلاق الملف من دون ذكر للموضوع علنا حتى لا يأخذ المجرم مجده ويظهر تفوقه على القضاء والعدالة. وبسبب هذه السرية التي اصطدمت بالحواجز والأبواب المغلقة يتحرك صحافي يعمل في قسم التصوير (رسام كاريكاتير) في اتجاه إعادة فتح الملف. فالرسام يقسم اليمين على نفسه أنه سيعمل على ملاحقة المجرم وكشف الحقيقة مهما كان الثمن. وهكذا يدخل الرسام عالم التحدي الشخصي مدفوعا بحب المعرفة وسط نصائح القضاة والمحققين والمفتشين بعدم تضييع الوقت.

يأخذ الرسام المسألة على عاتقه وتكون المهمة الخاصة مكلفة الثمن. فهو يغادر عمله ويتشرد ويهمل أسرته وينفصل عن زوجته ويعيش حالات ملاحقة ومطاردة ومخاطرة. ولكن النتيجة تصل إلى النقطة السابقة. فهو متأكد أن هذا هو المجرم ولكنه لا يملك الدليل القاطع بإثبات الإدانة.

إلا أن الاهتمام الذي أعطاه الصحافي/ الرسام للموضوع شجع بعض المحققين على فتح الملفات (صناديق من الأوراق والشهادات) لمواصلة البحث عن ذاك المجهول. ويتطور التحقيق ويصل إلى نقاط مهمة كلها تذهب باتجاه ذاك الرجل وهو مجرد شخص متهور عمل سابقا في المارينز (القوات البحرية) وتعلم لغة الرموز والإشارات. ولكنه لا يتمتع بذكاء خاص أو معرفة تضعه في مكان يتحدى فيه القضاة ولجان التحقيق.

هذا هو الرجل المجهول والمجرم الذي ارتكب تلك السلسلة الطويلة من الاعتداءات المتواصلة ولكن لا دليل يؤكد التهمة على رغم التحقيق معه أكثر من مرة وسجنه لأسباب أخرى ومختلفة.

النتيجة القضائية تساوي صفرا. فالقانون لا يأخذ بها وهي ليست كافية للقبض عليه وإدانته. وبسبب انسداد الأفق يقرر الصحافي/ الرسام تأليف كتاب عن سيرة المجرم (زودياك) وإثبات مسئوليته وتأكيدها بالأدلة، ويصدر الكتاب ولكن القضاء لا يأخذ بها فهي تصلح للرواية ويمكن الأخذ بها عناصرَ للقصة ولكن القانون لا يعتمدها أساسا للاتهام.

أكثر من ساعتين يتواصل الشريط ويلاحق ذاك المجهول على مدار سنوات تبدأ في العام 1966 وتنتهي في العام 2007 من دون التوصل إلى قرائنَ تدين المتهم. أكثر من 40 سنة مضت والكل يعرف المجرم ويشير إليه ولكنه ليس متأكدا من كونه الطرف المجهول الذي يتركب أفعال القتل. الكل يتقاعد ويشيخ أو يستقيل أو يذهب إلى عمل آخرَ و «زودياك» أيضا يكبر في العمر ويموت. والغريب في الموضوع أن طوال تلك السنوات تكون الولايات المتحدة تطورت ونمت وسائل الاختبار وتحسنت طرق فحص الحمض النووي وباتت الشرطة تملك الأدوات والتقنيات ومع ذلك فشلت في تحقيق ذاك الاختراق المطلوب وتحديد الصورة النهائية لهوية القاتل.

والأغرب من ذلك أنه حين يموت «زودياك» تشرّح جثته ويفحص حمضه النووي لمطابقته مع العينات الموجودة لدى الشرطة ويتبيّن في التحليل الأخير أنها مختلفة. إذا من هو المجرم/ المجهول إذا كان «زودياك» ليس هو؟

هذا السؤال المحير يترك المشاهد بعد معاناة ومتابعة تتعب العقل والبصر في المجهول. فالمشاهد متأكد أيضا أن «زودياك» هو المجرم ولكنه كذلك لا يملك الدليل القاطع.

الفيلم شيق ومثير حقا وهو من الأشرطة السينمائية المتعبة وتحتاج من المشاهد إلى الهدوء والصبر والجَلَد القدرة على المتابعة التفصيلية والمتأنية. وبعد العمل الشاق يجد المشاهد نفسه مثله مثل الصحافي والمحقق والشرطة في المكان صفر.

هذا العالم السري الذي يرسم شخصية نوع من البشر تسيطر عليه نزعة الشر للشر والقتل للقتل موجود في عالمنا وفي حياتنا. فكم من جرائم تُرتكب ويختفي فاعلها ويُغلق التحقيق؟ وكم من طفل يخطف ولا يعرف مصيره؟ وكم من حادث اغتيال وقتل وتفجير وتفخيخ يرتكب ولا يعرف الجناة ولا الجهات الفاعلة؟

إنه عالم مريض في ألغازه وملابساته ولكنه للأسف موجود على مستوى الجريمة العادية أو على مستوى الجرائم السياسية.

العدد 1777 - الأربعاء 18 يوليو 2007م الموافق 03 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً