العدد 1798 - الأربعاء 08 أغسطس 2007م الموافق 24 رجب 1428هـ

قصة جزيرة أنهكها طمع الإنسان وتسلطه

فيلم «الملاذ» في سينما السيف

في القرن التاسع عشر ضربت عاصفة بحرية جزيرة كاريمان في خليج الكاريبي وأدت إلى غرق سفن في تلك المنطقة الجميلة والنائية عن أوروبا. آنذاك كانت الجزيرة مستعمرة بريطانية تابعة لسلطة التاج. وتصادف أن يكون شاب من أمراء العائلة الملكية من بين ركاب أحدى السفن.

هذه المصادفة لعبت دورها في إعادة تشكيل شخصية الجزيرة لاحقا حين سارع سكانها إلى القيام بعملية إنقاذ للغرقى ومن بينهم ذاك الأمير الشاب. فهذا الأمير سيصبح بعد فترة ملك بريطانيا الأمر الذي دفعه إلى رد الجميل إلى أهل الجزيرة فأعلنها منطقة حرة وأعفاها من دفع الضرائب.

تحولت الجزيرة إلى مقصد للسياح والتجار وكل الطامحين. وحين استقلت سياسيا تحول القرار الملكي إلى قانون اعتمدته الدولة لا حقا. فالجزيرة حرة ولا يوجد فيها ضريبة. وهذا ما أعطى هذه المنطقة حيوية اقتصادية وخصوصية في إطار جغرافي تعتمد دولها على مورد الضريبة.

الجزيرة الآن أصبحت تابعة للولايات المتحدة وهي لا تزال تتبع ذاك القانون المتوارث من عهد بريطانيا الملكية. فالدولة الأميركية حرصت على عدم تغيير تقاليدها وعاداتها وأبقت الجزيرة منطقة حرة تعتمد اقتصاد السوق وتقدم تسهيلات مصرفية ولا تفرض الضرائب لا على البضاعة ولا الأموال المنقولة من الخارج أو تلك الخارجة منها.

هذه الخصوصية أطلق عليها مخرج الشريط السينمائي الذي يعرض في السيف أسم «الملاذ». فالمخرج لم يجد أفضل من هذه التسمية لمنطقة خالية من الضرائب. فهذه المسألة بالنسبة لدافع الضرائب الأميركية تعتبر من الأمور المتخيلة وهي تعتبر قياسا إلى وضعه جنة أرضية يحلم بها.

هذا الحلم تحول لا حقا إلى كابوس. فالجزيرة الجميلة أصبحت مقصد السياح والزوار وأيضا تحولت إلى مرتع للصوص والعصابات الهاربين من الرقابة والملاحقة. المهربون وجدوا فيها ملاذهم الأمن. الباحثون عن مكان لغسل (تنظيف) الأموال وجدوا في الجزيرة مكانهم المفضل. تجار المخدرات اعتبروا «كاريمان» المكان المناسب لتوظيف أموالهم نقدا. فالأموال التي تأتي من بيع المخدرات لا تدخل في حسابات المصارف وإنما تنقل في الحقائب إلى تلك الجزيرة.

قانون «كاريمان» الإنساني متساهل. فهو يمنع حتى السؤال عن مصدر المال. لذلك فإن أبواب المصارف تبقى مفتوحة لدخول الأموال النقدية في حسابات من دون تحديد مصدرها ووجهتها. وبسبب هذا الوضع الذي أطلق عليه المخرج صفة «الملاذ» تحولت الجزيرة إلى قنوات لتهريب أو تصريف أو نقل الأموال المشروعة وغير المشروعة. ولأن سكان الجزيرة لا يدفعون ضريبة تحولت أيضا إلى مكان يستقطب الناس للراحة أو الإجازة أو الإقامة الطويلة. وهكذا أخذت «كاريمان» تجذب إلى ربوعها كل من أراد التقاعد فيها.

مخرج «الملاذ» اختار هذه الجزيرة ليطلق عليها هذه التسمية. ولكن الملاذ للأسف تعرض للطمع ونزوع الإنسان نحو السيطرة واستغلال كل شيء والإستفادة من كل جميل وتحويله بسبب تلك النفسيات السيئة إلى بشاعة وارتزاق من دون تقدير لتاريخها وطبيعتها ووظيفتها.

من هذه النقطة. وهي مسألة التحول في الطبيعة الاجتماعية للجزيرة، يبدأ المخرج بسرد قصصه عن ثلاث حالات شهدتها الجزيرة في السنوات الآخيرة ليعطي فكرة عن دور طمع الإنسان في تحويل السعادة والحرية والاطمئنان والثقة إلى وسيلة للارتزاق والاحتيال واستغلال القانون الإنساني واسطة للقتل والتسلط وزرع الفوضى والعبث بالاستقرار.

مخرج فيلم «الملاذ» معروف بميوله نحو التركيز على طبيعة الحياة البشرية ودور الإنسان في تحطيم الحرية والعدالة انطلاقا من غريزة الطمع والجشع وحب التسلط والطغيان. ففي فيلمه السابق (كراش) الذي رشح لعدة جوائز أوسكار تحدث عن اصطدامات البشر وكيف أن الناس في طبيعتهم يميلون إلى العنصرية والاجرام حتى لو تظاهروا عكسها. وأن الكثير من الناس يتغيرون أو ينتقلون من ضفة إلى آخرى لسبب بسيط أو حادث عارض أو لمصادفة تافهة.

«الملاذ» يتحدث عن دور الإنسان في تشويه نظام مثالي في علاقاته الطبيعية بين البشر. فالقانون يتكل على الاخلاق ويعتمد الثقة ويفتح الباب للكل من دون سؤال أو رقابة. ولكن البشر يملكون كمية من الأسباب الكافية لتخريب كل شيء. والإنسان في طبيعته عنده الأستعداد الدائم للالتفاف حول القانون حتى لو كان يعطيه كل ما يطمح إليه بشرط إلا يستغله للإيذاء بالآخر تحت ستار التنافس.

يبدأ المخرج من قصص ثلاث غير مترابطة تلتقي مصادفة في جزيرة «كاريمان» لأسباب مختلفة. إلا أن تداعيات الأسباب تعيد ربط القصص الثلاث المتباعدة في يوم جمعة في 13 من شهر ما. واختيار المخرج لتوقيت اليوم مسألة رمزية ولكنه تقصد اختيار رقم 13 لآنه في الوعي الجمعي الغربي يعتبر من دلالات الشؤم.

القصة الأولى تبدأ في ميامي (ولاية فلوريدا الأميركية) عاصمة تهريب المخدرات وتنظيف الأموال. وهذا النوع من التجارة يتطلب جزيرة عذراء تفسح المجال لإدخال أموال التهريب من دون رقيب أو حسيب. ولكن الإنسان بسبب طمعه للاستئثار وحبه للاحتيال يستغل هذا «الملاذ» لتحقيق كسب على حساب حصة زميله في العصابة. فأصحاب عصابة الاحتيال والتهريب يختلفون على النسبة وتبدأ بينهم مطاردة وتعذيب وقتل في جزيرة مفتوحة الحدود وتعتمد على نظام السوق المفتوحة على مختلف الاتجاهات.

القصة الثانية تبدأ في الجزيرة نفسها وهي تتحدث عن شاب خجول (أبيض اللون) قتل والده حين كان في السادسة من عمره أمام عينيه بإطلاق رصاص نفذته عصابة سرقة. الطفل اندهش من منظر مقتل والده ولم يصرخ أو يتحرك. بقي الطفل صامتا ولم يستطع التخلص من سطوة الحادث وهذا ما أدى إلى نمو شخصية انطوائية في داخله جعلته مصدر سخرية أو شفقة من أصحابه.

القصة الثالثة تدور حول شخصية مضادة للخجل. وبطلها شاب (أسمر اللون) ينتمي إلى عائلة مهاجرين جاءت إلى الجزيرة قبل ستة أجيال. ومع ذلك يتعامل معه أهل «كاريمان» وكأنه من رعيل الطفيليين ومن جيل يريد اختراق القانون بسلوكه العنيف وتصرفاته الطائشة.

مخرج الفيلم يربط القصص الثلاث في دائرة يوم واحد (الجمعة 13) من خلال نسج علاقات متباعدة يتبين في نهاية الشريط أنها متقاربة ومتداخلة.

القصة الأولى تتحدث عن أب سرق أموالا حرام وهرب بها إلى الجزيرة مع أبنته الأميركية البيضاء. والثانية تتحدث عن شاب خجول نتيجة صدمة تلقاها في طفولته وجعلت منه شخصية منطوية على نفسها. والثالثة تتحدث عن شاب متمرد وعنيف يصطاد الفرص ويستغل تلك العائلات النازحة إلى الجزيرة.

المخرج نجح في عملية الربط حين قام الشاب الأسمر العنيف بإقامة علاقة مع أبنة الأميركي الهارب بالأموال إلى الجزيرة. وقام ايضا بربط الشاب الأبيض الخجول بفتاة سمراء اللون تنتمي إلى عائلة ثرية وغنية. فالأبيض (الخجول) يحب السمراء والأسمر (العنيف) يحب البيضاء. وهكذا تبدأ صور القصص الثلاث تتقارب إلى أن أصبحت في مشهد واحد (الجمعة 13). وهو المشهد الذي يتحدث عن ذاك اليوم العنيف حين ينفجر الغضب الدفين من داخل الشاب الخجول ويظهر الشاب الأسمر العنيف مقدرة خاصة للسيطرة على نفسه حين تنكشف قصة والد الفتاة الأميركية البيضاء.

في النهاية تنقلب الصور وتتوزع ويتحول «الملاذ» إلى ساحة صراع للجريمة والسرقة والعنف. فهذه الجزيرة التي اتسمت تقليديا بالمناظر الطبيعية الخلابة، والهدوء والبساطة وملجأ الباحثين عن الراحة والاستجمام والاستقرار انقلبت على تقاليدها المتوارثة حين عبث بها الإنسان مستغلا ذاك القانون الذي ألغى الضريبة ولكنه أبقى على غريزة البشر الطامحة نحو الهيمنة والتسلط حتى لو كان الثمن... ضياع الملاذ.

العدد 1798 - الأربعاء 08 أغسطس 2007م الموافق 24 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً