العدد 1833 - الأربعاء 12 سبتمبر 2007م الموافق 29 شعبان 1428هـ

صـراع مع مرض مـوروث انتقـــل مـن الأب إلى الابنــة

«مستر بروكس»... وانفصام الشخصية

الصراع بين السيد بروكس وماريشال شكّل جوهر سيناريو فيلم «مستر بروكس» الذي يعرض في سينما السيف. بروكس رجل أعمال ناجح أسس قبل 20 سنة شركة لتصنيع الأغلفة درّت عليه الأرباح وتحوّل إلى نموذج يحتذى بسبب حسن سلوكه وتعامله الشريف وإخلاصه وتواضعه. ولأنه أخذ هذا الموقع أصبح بروكس محط أنظار الجمعيات الخيرية والمجلاّت الأسبوعية التي اختارته مرارا الرجل المميز لأغلفتها.

«ماريشال» هو الوجه الآخر. فهو رجل عنيف وشرير ويحترف الجريمة ويهوى القتل ويلتذ بمشاهدة أوجاع الضحية. ماريشال هو بروكس نفسه الذي يعيش في داخله ويرافقه ليل نهار ويحرّضه على ملاحقة الضحايا وقتل الأبرياء بأسلوب سادي عنيف.

ازدواجية الشخصية هذه ولّدت صراعات متواصلة بين بروكس وماريشال. فالأوّل بسيط ومتواضع ومحب والثاني حاقد ويكره خصومه ويعمل على تحطيمهم. والجامع بين الشخصيتين هو الاحتراف. بروكس محترف ودقيق وناجح في علاقاته المنزلية وفي عمله. كذلك ماريشال فهو بدوره ينفذ جرائمه بأسلوب حرفي لا يترك ثغرات أو بصمات تدل على هويته.

الاحتراف هذا موروث جينيا. والانفصام في الشخصية شكّل ذاك الجدل الداخلي في حياة رجل يشده بروكس إلى الخير، ويدفعه ماريشال إلى الشر.

فيلم «مستر بروكس» يروي قصة الانفصام في حياة رجل مريض يعاني من فشله في السيطرة على موروث جيني يعيش معه ويلاحقه ويحرّضه على القتل. وداخل القصة تحصل حكايات تتشابك مع الموضوع.

بروكس متزوج وأنجب ابنته الوحيدة. وخوفا عليها حرص على تربيتها ورعايتها وإحاطتها بكل ما تطمح إليه حتى لا تنحرف وتسقط في صراع مع النفس. إلا أنّ الموروث الجيني تغلب عليه حين اكتشف أنّ ابنته تعاني بدورها من مرض انفصام الشخصية. فهي أيضا بسيطة ومتواضعة ولكنها في الآن مجرمة وقاتلة وترتكب الجرائم من دون حرفية.

زوجه بروكس لا تعرف شيئا عن مرض زوجها النفسي ومعاناته اليومية في صراعه مع ماريشال. فهو أخفى الجانب الآخر من شخصيته عن زوجته وابنته. وابنته التي حاولت إخفاء سرها نجحت في تمرير المسألة على والدتها ولكنها فشلت مع والدها. الأب يعرف المشكلة وأدرك أنّ ابنته مثله ولكنه أخفى سرّه عنها وادّعى عدم علمه بمشكلتها.

في موازاة العائلة هناك الشرطة. فالأجهزة القضائية فشلت في التوصّل إلى تحديد مواصفات المجرم والطرف الذي يرتكب تلك الاعتداءات. وكلّ التحقيقات التي قامت بها الشرطة أسفرت عن نتائج سلبية، حتى تلك الشرطية التي قررت معاندة الوقائع ومتابعة المهمة من دون تردد أو ملل.

الشرطية بدورها تعاني من مشكلات. فهي ابنة عائلة ثرية ورثت ثروة تقدر بـ 60 مليون دولار. وهي أيضا تعاني من سوء علاقات في حياتها الزوجية. إذ طلقت زوجها الأوّل وتزوجت ثانية وتريد الطلاق منه. الزوج استغل الفرصة وطالب بمبلغ ضخم لقبول الطلاق ،الأمر الذي أثارغضب زوجته الشرطية ودفعها مرارا إلى تهديده أو الدعاء له بالموت.

إلى جانب الشرطية هناك مصوّر فوتغرافي يهوى التلصص على الجيران ومراقبتهم والتقاط صور لهم في أوضاع غير مستحبة. هذا المصوّر الهاوي ليس محترفا ولكنه يبتز الناس ويلاحقهم، وأيضا يطمح أن يتحوّل إلى مجرم قاتل كالسيد بروكس.

كلّ هذه الشخصيات المضطربة (بروكس، والابنة، والشرطية، والمصوّر) جمعها المخرج في دائرة واحدة وربط بينها في سياقات مختلفة من سيناريو الفيلم.

كيف بدأ الربط؟ توجّه بروكس (ماريشال) إلى شقة ليمارس ليلا هواية القتل. فتح الباب وتوجّه بهدوء إلى غرفة النوم وقتل الزوج والزوجة وهما في وضع شاذ. الزوج والزوجة (العشيق والعشيقة) يمارسان حياتهما بأسلوب مرضي أيضا؛ إذ يتركان ستائر النافذة مفتوحة أمام جيران البناية المقابلة التي يسكنها المصوّر الذي يسترق الأنظار ويلتذ بتصوير ذاك المشهد اليومي.

الربط بدأ من هنا. بروكس/ ماريشال يقتل ضحيته بأسلوب محترف ولكنه يكتشف أنّ الستائر مفتوحة فيذهب إلى النافذة لغلقها. ويأخذ المصوّر لقطة له. وفي اليوم التالي يتوجّه إليه في مكتبه بقصد ابتزازه.

بروكس (ماريشال) يقع في حَيْرة من أمره حين يطلب منه المصوّر مشاركته في عملية قتل مقابل السكوت عن الفضيحة. فهذا الطلب مضحك ولكنه شكّل مادة دسمة للمخرج للكشف عن أعماق الإنسان والاختلاف بين البشر والفارق في السوية بين المحترفين والهواة.

هكذا يدخل المصوّر عالم بروكس الخاص. فهذا الجانب من شخصيته سريّ ولا يعرفه إلاّ هو. فكيف يستطيع التعامل مع مصوّر حشري التقطه مصادفة بالجرم المشهود. كذلك كيف يمكن أنْ يشارك شخصية أخرى في عمل يتطلب حرفية عالية وقدرة على إخفاء معالم الجريمة وبصماتها.

إلحاح المصوّر على مستر بروكس وضعه في مكان صعب ولكنه لم يكن في موقع آخر يسمح له رفض العرض. فالرفض يعني انكشاف أمره واكتشاف تلك الخلفية المرضية في حياته المنفصمة على خطين. وهكذا يبدأ بروكس يخطط لجريمة قتل يشاركه في تنفيذها هذا المصوّر الذي لا يعرف شيئا عن موضوع يحتاج إلى خبرة وتقنيات وهدوء أعصاب.

مشاهد كثيرة من الفيلم مضحكة وخصوصا حين يبدأ بروكس (ماريشال) في التخطيط لاختيار الضحية برفقة المصوّر المعجب بالأسلوب الحرفي الذي يتبعه رجل الأعمال الناجح في تنفيذ جرائمه.

إلى جانب هذا التنسيق المستجد يكتشف بروكس أنّ الشرطية بدأت بملاحقة المصوّر ظنا منها أنه هو الطرف المطلوب وهو الذي يرتكب تلك الجرائم .

هنا تحرّك (ماريشال) ليضرب ضربته المزدوجة. فهو يقتل ويترك الشرطية تطارد المصوّر وتتهمه بالجرائم. وهكذا بدأ يبحث عن ثغرة تخلّصه من ملاحقة الشرطية وتنهي المصوّر الذي تدخل في حياته وكشف سره.

الشرطية آنذاك كانت تعاني من زوجها الذي أخذ يبتزها لقبول الطلاق. واكتشف بروكس أنّ زوج الشرطية ينسّق مع المدعية القضائية من دون معرفتها. فالزوج متورّط بعلاقة مع المدعية من دون علم الشرطية. وهكذا يقع اختيار بروكس على هذا الثنائي العاشق ويذهب إلى شقتها برفقه المصوّر لتنفيذ الجريمة. وحين تأتي الخطة يخاف المصوّر ويرتعب ولكن «ماريشال» يقتلهما تاركا بصمات المصوّر في الشقة.

بروكس هنا يضرب ضربته المزدوجة إذ يأخذ الصوّر التي تفضحه ويذهب بالمصوّر إلى مقبرة بعد أن أقنعه بأنه يريد التخلّص من حياته وانفصام شخصيته. وفي المقبرة يقتل ماريشال المصوّر ويدفن سرّه معه. كذلك يقتل زوج الشرطية وعشيقته ويخلّصها من الابتزاز وأيضا يقنع أجهزة القضاء بوقف الملاحقة في اعتبار أنّ المجرم القاتل هو المصوّر. وهكذا يكسب بروكس/ ماريشال كلّ زوايا الصورة. فهو حافظ على سرّه بقتل المصوّر، وعطل التحقيقات القضائية؛ لأن المجرم اختفى والشرطة تبحث عنه. كذلك اكتسب إعجاب الشرطية التي تخلصت من زوجها وعشيقته من دون دفع كلفة الطلاق.

كل هذه الإنجازات لا قيمة لها في حياة «مستر بروكس» إذا لم يتخلّص من مرضه. فهو يعاني من انفصام في الشخصية وعليه طرد «ماريشال» من داخله حتى يستقر وتنضبط حياته. ولكن المحاولة التي فشلت سابقا وكررها مرارا كانت تصطدم دائما بالموروث الجيني. هذا الموروث المخيف والمرعب غير موجود إلا عند شخصية واحدة ووحيدة ومجبولة على مثاله.

أنها ابنته. الابنة التي اكتشف الأب أنها تحمل مرضه باتت تشكّل له عنصر القلق الوحيد الذي يقض مضاجعه. فهي الوحيدة القادرة أنْ تفعل ما يفعله من دون تردد وبسبب دافع المرض الغريزي الذي يشجّعها على القتل. فالأب قاتل وبقي عليه أن يعرف متى ستقتله ابنته. هنا تكمن المأساة وعند هذا الحد ينتهي الفيلم.

العدد 1833 - الأربعاء 12 سبتمبر 2007م الموافق 29 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً