العدد 2024 - الجمعة 21 مارس 2008م الموافق 13 ربيع الاول 1429هـ

قريبا من سماء الحكاية بعيدا عن خشاش السياسة!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

قد تكون مغامرة ساحرة وجميلة لا تعوض حينما تنفذ بجلدك وروحك التي تلطخت كثيرا بخبث السياسة والساسة والتسييس في مشهدنا المبتلى بالطائفية العمياء هروبا منك إلى عوالم الخيال الشهي و البراءة العذراء التي لم تلوث بعد بركام وعثاء التجربة والدراية والمعرفة، ومثل ذلك الانطباع كان قد رافقني حينما حضرت إحدى الفعاليات المتميزة لمهرجان ربيع الثقافة 2008 وهي فعالية «الحكواتي روجر جنكنز» التي أقيمت في مركز سلمان الثقافي بتاريخ 15 مارس / آذار 2008.

ولعل أول ما ارتبط في ذهني حيال هذه الفعالية هو اختلاط هواجس إيجابية وسلبية ببعضها بعضا إلى حد بات من الصعب التفريق بين ألوانهما، وذلك حالما أدركت أن مكان عقد هذه الفعالية هو مركز سلمان الثقافي في القضيبية والذي لطالما حملت معه أجمل ذكريات الطفولة وما تفجره زهرة الخيال الخصيب حينها التي لم يذبلها ضجر الواقع والمنطق من إيحاءات إبداعية وطاقات خلاقة لا يمكن تصورها ووصفها، فمنذ أن رأيت المركز بعد طول انقطاع مذ كنت أبلغ ثماني سنوات وحتى الآن وقد لمحت عليه نقوش الزمان وآثار الكبر العتية!

إنها خطوة إيجابية مقدرة كثيرا في أن تعقد فعالية متميزة كهذه في مركز سلمان الثقافي الذي جمد وتراجع دوره كثيرا في الآونة الأخيرة لصالح مراكز التنشئة الحزبية التي تقولب مقدرات الأطفال والناشئة والشباب في صالح خدمة الحزب المتشح في غالبيته بألوان إسلاموية مذهبية على اعتبار أنها «أهداف وطنية» ومواقفها المتبيئة معروفة سلفا تجاه مختلف أشكال الهيجانات الخيالية والإبداعية الجميلة التي تدفع الفرد لأن يغادر سرب الحزب ورفاق الحزب حتما ليحافظ على ما بقي له من خيال وروح ووميض للجوء!

مركز سلمان الثقافي لطالما استقطب الكثير من المواهب الناشئة والشابة وعمل على صقلها وإبرازها في مختلف ميادين الإبداع ومن بينها أذكر موهبة الفنان الراحل حميد مراد (رحمه الله) الذي لطالما شاهدته على منصة المسرح طفلا يذهل الجميع بجرأته وعفويته المنطلقة بخفة دون قيود، فأن تعقد فعالية كهذه وتضم اسما من أشهر أسماء الحكواتيين في العالم هو أمر قد يعني لي وربما لغيري الكثير في ما يشير إلى إعادة تنشيط مركز سلمان الثقافي وبث الروح الحيوية فيه، ولكونها أيضا قد أعادتني إليه منذ أن هجرته لمدة 16 عاما على وجه التقريب، وقد تحررت من أصفادي وقيودي الصدئة ولو لساعة ونصف صباحا، وأنا أستمع مع شقيقيّ الغاليين عبدالرحمن ومحمد إلى الحكواتي روجر جنكز وسط بهجة طفولية غامرة شكلت المحيط الحميم الذي دخلت إليه، والذي اكتظ كثيرا بالأطفال وأولياء أمورهم «إنسانيا لا سياسيا وشرعيا»، وهي التي أنعشتنا بعيدا عن صراخ ومماحكات الساسة والسياسات الملتوية على بعضها بعضا، فتذكرت حينها مقولة الأديب الإيرلندي جورج برنارد شو المشهورة «جميلة هي الطفولة ولكن المؤسف أنها للأطفال»!

الحكواتي روجر جنكنز كما قرأت عنه سابقا، وكما أخبرنا في مطلع الفعالية لاحقا هو حكواتي حل علينا ضيفا من سنغافورة، وعلى رغم «الكاراكتر» الإنجليزي الأصيل الذي يحظى به إلا أن لهجة الحكواتي السنغافورية - الإنجليزية قلصت كثيرا من سلطة ذاك «الكاراكتر»، وكان الغريب في الأمر بالنسبة لي ومعي الكثير هو أن يرتبط اسم بلد وأنموذج متقدم كسنغافورة بالحكايات الخيالية السحرية، وهو الذي أصم الآذان برنينه القوي المستمد من صفقات أبرز رجال الأعمال وبملامح التخطيط الصارم والانتظام العصري الصارم.

وفي نظري لعل ما تميز به جنكنز من خلال الاستماع إليه لمدة ساعة ونصف الساعة هو قدرته السردية المدهشة على شد الانتباه معه مع طلب المزيد من ذلك الشد، فهو بما ينتقيه من مزيج رائع من الحكايات العالمية وبحركاته التعبيرية المثيرة والممتعة واستعماله للأقنعة يعمل على إشراك جميع الحاضرين في مزيج حكائي تفاعلي رائع ومتواصل في ما يستهدف غرس المفاهيم والقيم الإنسانية الأصيلة لتلك الحكايات وربطها بخبرات الحياة اليومية.

وقد استهل الحكواتي جنكنز فعاليته بحديث فانتازي عن أحد أمهر خياطي العالم حينما احتار بالطلبات العجيبة والشروط المستحيلة لأحد زبائنه وكيف أن الاستخدام المتواصل للملابس أيا كانت جودتها ونوعيتها لن يقيها في نهاية الأمر من أن تبلى ويتم التخلص منها، في حين أن الحكاية لا يمكن أن تبلى وتذبل مهما بلغ زمن ومكان وحجم تداولها بين الأفراد والجماعات والشعوب والعوالم المتنوعة!

كانت هنالك حكاية عن تمساح تربص ذات يوم بدجاجة وهي تشرب الماء من النهر، فلما فتح فمه ليأكلها فزعت وارتدت وقالت له «كيف تأكلني وأنا أختك؟!» فاستغرب التمساح من قول الدجاجة وتراجع عن التهامها، واستمر هذا التربص والتراجع لأيام عدة إلى أن ضاق التمساح ذرعا من «أخوة الدجاجة» فذهب مستجيرا بصديقته السحلية التي فسرت له معنى أخوة الدجاجات وكل الكائنات للتماسيح وكيف أنها جميعا لديها أعضاء ووظائف حيوية وغايات متشابهة في البقاء والعيش!

واختار الحكواتي جنكنز لنا حكاية أشرك من خلالها عددا من الأطفال الحاضرين، وهي تتعلق بقطتين تعاركتا ذات يوم على قطعتين من «كعك السمك» فأخذتا تتجادلان بشأن حجم نصيبهما، أكان أصغر أم أكبر من الآخر إلى أن ارتأتا في النهاية تحكيم القرد بينهما الذي حاول بطريقته الظريفة التوفيق بينهما، فأخذ يأكل من قطعتيهما كل مرة على أمل المساواة بينهما إلى أن أكل كلتا القطعتين ولم يبق حينها للقطتين شيئا سوى أنه عدل بينهما بشكل سلبي فأصبحتا بلا نصيب!

وأذكر هنالك أيضا قصة عن طفل أراد رسم لوحة لأمه فرسم في البداية وجها وملامح بشرية وأخذ يصول ويجول بين أصدقائه الحيوانات ليأخذ آراءهم المختلفة في لوحة أمه التي رسمها، فقال له الأرنب «حتى تكون جميلة ينبغي أن تكون لها أذنان طويلتان» أما الأسد فقال له «ينبغي أن يكون لها شعر كثيف ومتجعد» والفيل اشترط عليها أن يكون للأم خرطوم جميل، فلما أخذ الطفل بجميع ملاحظات أصدقائه الحيوانات وطبقها على لوحة أمه، فأصبحت لوحة لكائن مسخ مفزع، فتردد واستحى الطفل كثيرا من أن يريها إلى أمه إلى أن عقد العزم على ذلك وتفاجأ من ردة فعلها حينما تقبلت اللوحة من طفلها باعتبارها تمثل تصورة لها!

ومع كل ذلك الهروب نحو مراعي الطفولة والبراءة، فلا يمكنني أن أنكر أن أشباح السياسة القبيحة على رغم عماها إلا أنها استطاعت أن تتعقب أثري في تلك المراعي وتوسوس بداخلي بشأن ما تلقيته من قصص، فكانت في أحيان كثيرة تطلب مني تعليقا وتعقيبا ومداخلة كئيبة تنفض معنى ومضمون الإنسانية!

أحد الأشباح غير المرئيين طفر مرة واحدة ووسوس بداخلي بشأن مقولة «إن كانت الثياب تبلى فالحكايات لا يمكن أن تبلى» وقال لي من دون مقدمات واستئذان «وكذلك البدائل والممكنات السياسية تبلى حاليا بشكل أسرع من الثياب وأحيانا تكون اللاممكنات المسيسة أدوم من الحكايات»!

في حين طفر شبح آخر متداخلا على قصة التمساح والدجاجة فتساءل بحسرة «ما أكثر الدجاجات الوطنية التي لم تعترف بإخوتها التماسيح الطائفية في مشهدنا المحلي على رغم أنها لم تعلم بأن هذه الدجاجة أكثر شدة وبأسا من تلك التماسيح التي لا تتقن سوى لغة الفك وتبتغي الالتهام دون المضغ، ولا تأخذ إلا رأي القرابة العائلية والطائفية والإثنية في مسائل مصيرية أقرب إليها من حبل وريد ومن سن القدر!».

وعلق شبح آخر على قصة القطتين والقرد الحكم» ألا ترى أن هذه القصة تنطبق على مشهدنا السياسي المطيّف حيث الصراع بين الإخوة الأعداء يدفعهم إلى التخاصم وتحكيم طرف ثالث يدفع بهما للخسران المريع ويكون هذا القرد الحكم الكاسب الوحيد من تطبيق العدالة السالبة بينهما؟!».

وشبح آخر نفر وتناول قصة «لوحة الأم» وكيف قادت ملاحظات الحيوانات الطفل إلى أن يخلق أغرب لوحة أم في الوجود « تبدو لي هذه الحكاية ترتبط بقضيتنا مع تعددية المواريث والذاكرات الجماعية ناهيك من تعددية الصور والتصورات والرؤى المؤطرة التي مهما بدت غريبة وغير مألوفة لدى بعضنا بعضا إلا أنها ستكون الأجمل لو قبلنا بها وتصالحنا معها جميعا بماهياتها التي تؤكد حقائق وجودنا المشترك الذي لا يمكن الهروب منه وطمر منابعه»!

وبعد أن رحلت أشباح السياسة التي بلغت متسعا وانحسارا جدليا لا يكاد أن يفسح لي أدنى مجال للخلاص، دارت في بالي الكثير من الهواجس حول تفريطنا بإبراز تراثنا الحكائي والميثولوجي والخيالي، وحاجتنا لاستراتيجية متكاملة لا «هيئة نيابية» تتولى أمر تأصيله وتجديده وإعادة نشره وتداوله كحاجة روحية متأصلة بدلا من تسفيهه والسخرية منه كحال بعض نخب «الدقة التنويرية القديمة»!

فإن كان لنا فضل في الريادة العلمية والحضارية في عصور سابقة فإن لنا أيضا فضلا خياليا وميثولوجيا ساحرا لا يمكن نكرانه على الكثير من الأدباء والتيارات الأدبية التي حازت رموزها بجدارة أعلى الشهادات وأوسمة التقدير العالمية كالروائي الكولومبي الحائز على جائزة نوبل العالمية غابرييل غارسيا ماركيز الذي أقر كثيرا بدور «ألف ليلة وليلة» و غيرها في تدعيم بنيانه الأدبي وإخصاب خياله، وفي خلق البريق المذهل لتيار «الواقعية السحرية «The Magic Realism» في مدرسة الأدب اللاتيني!

أذكر في هذا السياق ما رواه المفكر عبدالوهاب المسيري في إحدى كتبه عن تجربته أثناء الدراسة بالولايات المتحدة وكيف كان حينها يستغرب الأميركيون من ذائقته المعرفية والبحثية كطالب جامعي وذلك في الاطلاع على موضوعات العقل والواقعية وغيرها من مواد حداثية، في حين أنهم أبناء الغرب المنهمكون بشراهة في ما بعد حداثيتهم كانت تستهويهم موضوعات اللاوعي والميثولوجيا والفولكلور وغيرها!

هل سنعيد الاعتبار للاوعينا المتحقق بعد أن نبحث عن حقيقتنا الواعية ونحن نشهد في حياتنا اليومية مآزق حكائية حتمية شبيهة جدا بما واجهه المسيري؟!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 2024 - الجمعة 21 مارس 2008م الموافق 13 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً