العدد 2561 - الأربعاء 09 سبتمبر 2009م الموافق 19 رمضان 1430هـ

تطور طرق صيد الأسماك

من الحفرة إلى «الحضرة»

رأينا في الحلقات السابقة كيف بدأت مهنة صناعة السفن التي ازدهرت منذ العصور السحيقة في البحرين وأشتهر بها ساحل منطقة النعيم الذي اختفى ولم يعد له أثر، ورأينا مهنة الغوص وكيف أصبحت أعماق بحار جزائر اللؤلؤ خالية من اللؤلؤ، واليوم نبدأ موضوع جديد نتناول فيه صيد الأسماك، ومن الصدف الغريبة أن تكون هذه المهنة قد بدأت بالحفر الطبيعية التي توجد بالقرب من الشاطئ وأن تكون نهاية هذه المهنة تسببت فيها أيضا الحفر ولكن هذه المرة ليست حفر طبيعية بل تلك الحفر العميقة التي تحفر لأخذ الرمال منها وحفر أخرى نتجت بسبب شفط الرمل من قاع البحر لتردم به شواطئه، وحفر أخرى عميقة جدا لكي تمخر القوارب الكبيرة لتحاذي الشاطئ, ويبدو أن هذه الحفر أعمق من أن تكون فخ لأسماك صغيرة. غريبة هي قصة مهنة صيد الأسماك إذ إنها انتهت قبل أن توثق, هي كغيرها من تلك المهن التي كانت حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي مهن مستهجنة مهن أطلق عليها اسم «عيب»، يقول البروفيسور كلايف هولز من جامعة أكسفورد إنه في نهاية السبعينيات من القرن الماضي سمع صفة «عيب» لازالت ملازمة لبعض المهن في البحرين. إن وسم صائد الأسماك بأوصاف تقلل من شأنه ليس بالجديد وما هي إلا ترسبات من الماضي البعيد، فعندما نقرأ بيت الشاعر جرير الذي يمتدح فيه نساء عربيات حيث قال:

ظعائن لم يدن مع النصارى

ولا يدرين ما سمك القراح

تعلق أميمة الخميس في روايتها «البحريات» على هذا البيت قائلة: «يصف نسوة الجزيرة اللواتي يقبعن في قلب الصحراء لم تمازجهن البحار، ولم يذقن السمك قط... ويبدو أن هذا التشبيه ظل قابعا في الوجدان الشعبي لأهل الجزيرة فباتوا ينعتون كل من لا يلتئم بجذور قبلية (بطرش بحر) - أي الشتات الذي يقذفه البحر إلى جزيرة العرب - بحيث بات البحر انتقاصا ووصمة تمنع نقاء العرق».


البحث عن مفردات المهن «العيب»

يلاحظ أن المهن التي وصمت «بالعيب» من قبل ذوي الانتماء القبلي أو الجماعة التي عرفت في البحرين بالعرب في سنوات لاحقة كانت تمارس من قبل الجماعة الأخرى؛ أي البحارنة منذ عهد قديم واستمرت معهم وأصبحت شبه حصرية عليهم، وبذلك فالتحقيق في مفردات هذه المهن بمثابة البحث في مفردات اللهجة البحرانية وهي لهجة ذات امتداد قديم سبق وأن تحدثنا عنها أنها تأثرت باللغة الآرامية. لبروفيسور كلايف هولز يرى أن للهجة البحرانية امتداد أبعد من الآرامية فهو يرى أن هناك تأثيرات من اللغة الأكدية على مفردات اللهجة البحرانية. وعليه عند البحث عن مفردات معينة في اللهجة البحرانية لا يمكننا أن نستنطق أي مفردة اعتمادا على المعاجم اللغوية العربية فقط، فيمكننا تمييز أربع مجموعات من المفردات غير العربية ولكنها ذات أصل سامي ضمن اللهجة البحرانية: المجموعة الأولى وهي مفردات مشتركة عربية سامية وهي ليست ذات خصوصية للهجة البحرانية، أما المجموعة الثانية فتضم مفردات من أصل آرامي وأكدي حصرية على اللهجة البحرانية لكنها لا توجد في المعاجم اللغوية العربية، والمجموعة الثالثة تضم مفردات قد يوجد جذرها في المعاجم العربية لكن استخدامها في اللهجة البحرانية بمعاني تتفق مع اللغة الآرامية والأكدية وليس كما تستخدم في اللغة العربية، أما المجموعة الأخيرة فتضم مفردات حصرية باللهجة البحرانية وذات أصل آرامي وأكدي ذكرت في المعاجم اللغوية العربية ولكنها خصت بلهجة عبدقيس وهي اللهجة البحرانية الأولية إذ إن قبيلة عبدقيس تمثل غالبية العرق العربي الذي تداخل مع الشعوب القديمة التي سكنت جزيرة البحرين وشرق الجزيرة العربية وأثرت فيهم وتأثرت بهم، وبذلك أصبحت قبيلة عبدقيس إحدى البوابات التي دخلت عن طريقها مفردات آرامية وأكدية في المعاجم اللغوية.

حرفة صيد السمك كغيرها من المهن القديمة بها مفردات لا توجد في المعاجم اللغوية بالمعنى نفسه، اجتهد البعض في أصولها ومنهم من ردها للعربية، ولكن عندما نعلم حقيقة وجود تداخل لمفردات اللهجة البحرانية مع لغات أخرى قديمة يجدر بنا أن نتوخى الحذر في البحث عن أصولها أو تركها للمتخصصين.


الحفرة كانت البداية

كانت البدايات الأولى لصيد الأسماك تعتمد على منطقة المد والجزر، ويقصد بمنطقة المد والجزر تلك المنطقة من البحر التي تنكشف تماما أثناء عملية الجزر التي تسمى محليا (ثبر) وتغطى بالماء أثناء عملية المد التي تسمى محليا (سقي). وبحسب طبيعة قاع هذه المنطقة توجد أحيانا حفر طبيعية في هذه المنطقة عرفت باسم «برك منطقة المد والجزر» أو tidal pools . هذه الحفر يختلف عمقها ومساحتها من ساحل لآخر بحسب طبيعة الساحل، أثناء عملية المد تندفع الأسماك نحو الشاطئ وعندما تنحسر المياه أثناء الجزر تحبس بعض الأسماك في تلك الحفر ويصبح من السهل اصطيادها باليد أو بقطة خشبية أو معدنية مدببة والتي تطورت مع الزمن لتصبح حربة.


تطور صيد الأسماك من الحفرة إلى الحضرة

كانت منطقة المد والجزر المدرسة التي تدرب فيها الصياد على الصيد ومنها بدأ يطور من أدواته لصيد الأسماك، فبدأ بابتكار أدوات ليخرج السمك من تلك الحفرة فأبتكر الشبك وأنواع من الحراب تدرجت في مادة صنعها من الأخشاب إلى المعادن المختلفة، ثم السلال المصنوعة من أجزاء من النخلة والتي استخدمها كالشبك في التقاط الأسماك من تلك الحفر والتي تحولت لما يعرف بالقرقور لاحقا. وبمرور الزمن تحولت الحراب لشص أو خطاف يربط بخيط ويوضع به الطعم ليصطاد به السمك. أما الحفرة نفسها فقد تطورت من حفرة طبيعية لحفر صناعية ثم انتقلت للمرحلة الأكثر تعقيدا وهي بناء سدود حجرية والتي تحولت لاحقا لما عرف بالمساكر، وانتهت بالمرحلة الأكثر تطورا وهي مصائد الحضرة.

ومع تطور أدوات وطرق صيد الأسماك تطورت أيضا المعارف المرتبطة بها، ليس فقط طرق تطويرها بل أيضا أوقات استخدام كل طريقة فمع التطور أصبح بمقدور الصائد أن يمارس حرفة الصيد في منطقة المد والجزر أو في عمق البحر وعليه بدأ الإنسان القديم بدراسة أوقات قدوم الأسماك للشاطئ والأوقات التي يتواجد فيها في الأعماق وكذلك الأوقات التي يكثر فيها كل ذلك عن طريق الملاحظة، وهكذا هيئ للإنسان القديم اكتشاف وجود دورة معينة للأسماك فهي أحيانا تغزو المناطق الشاطئية وأحيانا أخرى تهرب من تلك المناطق، وأن هناك عددا من العوامل التي تؤثر على تواجد الأسماك في منطقة ما من البحر وأن منها ما يرتبط بدورة القمر، فبدأ الإنسان القديم يقسم أيام صيد الأسماك ويعطيها المسميات، وقد تطورت تلك المعارف واختزلت حاليا فيما يعرف بأيام الحمل والفساد وغيرها من التقسيمات.


الشهر القمري وأيام الحمل والفساد

تحسب دورة البحر حسب الشهر القمري؛ إذ إن هناك علاقة بين المد والجزر ودورة القمر. ويقسم الشهر القمري بصورة عامة لأيام الحمل والفساد كما هو موضح في الجدول، ويلاحظ من الجدول أن دورة البحر هي دورة نصف شهرية بحيث أن النصف الأول من الشهر القمري يتطابق مع النصف الثاني منه فاليوم الأول من الشهر يتطابق مع اليوم السادس عشر واليوم الثاني يتطابق مع اليوم السابع عشر وهكذا. ويقصد بالحمل هو وجود تيارات مائية قوية تحت سطح الماء تكون عادة في المناطق العميقة وهي تختلف عن الموج، وعادة ما تهرب الأسماك من تلك التيارات القوية فتتجه نحو المناطق الضحلة غير الغزيرة بقرب الشاطئ، وعليه تكون أيام الحمل ملائمة للصيد من الشاطئ لأن الأسماك متواجدة قريبا من الشاطئ هربا من الحمل، بينما الصياد الذي يصطاد بالقارب أثناء الحمل لن يجد سوى الأسماك القوية والكبيرة التي تستطيع التأقلم مع تيارات الحمل.

أما الفساد فهو وجود تيارات ضعيفة تحت الماء، و فيها يفضل السمك الابتعاد عن الشاطئ والاتجاه إلى المناطق الغزيرة أو العميقة، وهو الوقت المفضل للصيد بالقارب في المناطق الغزيرة؛ لأن الأسماك في هذه الفترة تعود إلى المناطق الغزيرة بعد زوال التيارات القوية. وتسمى أول أيام الفساد در أو درور الفساد حيث تنكسر فيه حدة التيار المائي وتقل سرعته إلا أنه لايزال شديدا، وسمي در أو درور لأن المد لا يندفع عند بداية المد بقوة كما يحدث في أيام الحمل فيقال الماية در تشبيها بضرع الأغنام أو الماشية عموما عندما تبدأ بدر اللبن من ضرعها ببطء إلى أن تسمح بتدفقه وحلبه، وأيام الدر أو الدرور هي تهيئة التيارات المائية لتباطئها لتصبح فسادا. ومن ضمن أيام الفساد أيام تعرف باللغو وهي صفة تطلق على حجم المد والجزر فمايات اللغو، كما تسمى، لا يعرف مدها من جزرها وهو أن الجزر لا يكون كبيرا وكذلك المد، ولكن يبقى المد والجزر متوازنين فكل منهما يحد من قوة الآخر فلا جزر ولا مد.

ويحدث في اليوم الواحد مدَّان وجزران متعاقبان وبين كل مد وجز ست ساعات، و يمكن حساب أوقاتهما وذلك لوجود دورة ثابتة لهما وهي دورة نصف شهرية أيضا يتطابق فيها النصف الأول من الشهر مع النصف الثاني منه كما سبق وذكرنا سابقا. وأسهل طرق حساب أوقات المد والجزر هو معرفة وقت أول مد يحدث في اليوم الأول من الشهر وهو يتوافق مع اليوم السادس عشر أما الجزر الأول فسيكون بعد المد الأول بست ساعات والمد الثاني بعد ست ساعات أخرى والجزر الثاني بعد ست ساعات أيضا، وفي الأيام اللاحقة ينقص في كل يوم ساعة واحدة من وقت المد الأول عن اليوم الذي يسبقه وبإضافة ست ساعات يمكن معرفة المد والجزر اللاحقان. ولتوضيح ذلك يمكن القول إنه في اليوم الأول الذي يتطابق مع اليوم السادس عشر يكون أعلى مد في منتصف النهار؛ أي في نحو الساعة الثانية عشرة ظهرا تقريبا، والجزر الأول يكون في السادسة مساء ثم مد آخر في منتصف الليل في الثانية عشرة تقريبا أيضا، وجزر آخر في السادسة صباحا، وفي اليوم الثاني الذي يتطابق مع اليوم السابع عشر يتأخر كل من المد والجزر قرابة ساعة أي يصبح حدوث المد الساعة الواحدة بعد الظهر والجزر الأول الساعة السابعة صباحا ومد آخر في الواحدة بعد منتصف الليل وجزر آخر الساعة السابعة مساء تقريبا، وهكذا يستمر في التأخر حتى اليوم الرابع عشر الذي يتطابق مع اليوم الثامن والعشرين حيث يعود موعد المد والجزر كما كان في اليوم الأول والسادس عشر، أما في اليوم الخامس عشر فتكون مواعيد المد والجزر كما هي في اليوم الثاني والسابع عشر وبعدها في اليوم السادس عشر تعود الدورة كما كانت عليه من البداية. ويجب الأخذ بالاعتبار أن المد في الشتاء يختلف عن المد في الصيف، وكذلك الجزر؛ إذ إن المد في الشتاء يكون في المساء أعلى من ساعات النهار، والجزر ينحسر في الشتاء صباحا أكثر من انحساره مساء، وفي فصل الصيف يكون العكس.


ماذا بعد صياح ديك الحردانة

يلاحظ أن التوقيت الزمني مهم في عملية صيد الأسماك وقد تطورت طرق حساب هذا الزمن، ومن خلال البحث في الذاكرة الشعبية لا نمتلك سوى بعض الترسبات التي تعكس وجود نظام قديم في تحديد الأوقات ذلك النظام الذي اختزل مؤخرا في ما عرف بالتوقيت العربي حيث يبدأ اليوم من لحظة غروب الشمس، وهو بذلك يشبه بداية اليوم عند البابليين في حضارة الرافدين، وتسمى لحظة الغروب عند العامة «سلوم الشمس» وهو مصطلح ضارب في القدم فهو مصطلح أكدي بمعنى غروب الشمس وفي التوقيت العربي تعتبر لحظة السلوم أو الغروب هي الساعة الثانية عشر. لم تكن الشمس هي العلامة الوحيدة فقد ربطت بعض الساعات بظواهر معينة من أهمها صياح الديك الذي يصيح مرتين واحدة في الساعة الرابعة بالتوقيت العربي أو بعد مرور أربع ساعات من غروب الشمس وتعرف هذه الصيحة بصيحة «ديك الحردانة» حيث إنه في هذا الوقت لا يخرج أحد للطريق فتغتنم الفرصة الزوجة «الحردانة» (التي تخاصمت مع زوجها وعادت لبيت أبيها) لتعود لبيت زوجها، أما صيحة الديك الثانية فتكون قرب الفجر. يروي لي بعض العامة قصة ديك الحردانة باستحياء, وعند البحث في الذاكرة الشعبية لشعوب عربية أخرى نجد المصطلح ذاته يستخدم في تسمية الساعة الرابعة بالتوقيت العربي في التراث الشعبي الفلسطيني. على رغم أننا لا نجد تفاصيل أخرى عن تقسيم اليوم في الذاكرة الشعبية إلا أن هذه الترسبات البسيطة في الذاكرة الشعبية تجعلنا نتساءل عن أصالة هذا الشعب وجذوره الضاربة في عمق التاريخ.


تطور صيد السمك من اليد للحربة

عندما نستنطق لفظة «ثبر» المحلية سنجد أنها تعني في اللغة العربية بالإضافة لمعناها المحلي أي «جزر البحر» سنجدها تعني أيضا الحبس، والثبرة هي الحفرة التي يتجمع بها الماء، فلفظة «ثبر» هي اسم وصفة في آن واحد لتلك الحالة التي يبتعد فيها الماء عن الشاطئ وتبقى الأسماك حبيسة الحفر تنتظر الصائد ليلتقطها بيده، عاشت هذه الصورة آلاف السنين حتى القرن العشرين حيث الشهادات العديدة لطرق صيد الأسماك في الحفر باليد في البحرين والكويت.

صيد السمك باليد ليس بالأمر الهين بل صعب جدا وصورة إمساك السمكة باليد والسمكة تتحرك وتنزلق منها صورة حفرت في عقول العرب الأوائل، نقرأ قول الشاعر الجاهلي عبيد بن الأبرص الذي شبه تمكنه من بحور الشعر وغوصه فيها بأن لسانه في القوافي أمهر من سباحة السمكة في البحر وأمهر منها وهي «تتملص» من يد الصائد بمهارة فائقة وقد رسم لنا تلك الصورة التي لابد أنها حفرت في ذاكرته وهو يشاهد الصياد وهو يمسك بها:

بَناتُ الماءِ لَيسَ لَها حَياةٌ

إِذا أَخرَجتَهُنَّ مِنَ المَداصِ

إِذا قَبَضَت عَلَيهِ الكَفُّ حينا

تَناعَصَ تَحتَها أَيَّ اِنتِعاصِ

وَباصَ وَلاصَ مِن مَلَصٍ مَلاصٍ

وَحوتُ البَحرِ أَسوَدُ ذو مِلاصِ

حتى صفات الأسماك بقية محفورة في الذاكرة الشعبية فنسمع بعض من أسماء الأسماك كالملوص والملاصي وأبو مليس. ونتيجة لصعوبة الإمساك بالأسماك باليد طورت الحراب بأشكالها المختلفة لتفي بالغرض نفسه، وقد تم العثور في مناطق من الخليج العربي على أشكال من حراب صيد الأسماك يعود تاريخها للألف الثاني قبل الميلاد.

العدد 2561 - الأربعاء 09 سبتمبر 2009م الموافق 19 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً