العدد 2561 - الأربعاء 09 سبتمبر 2009م الموافق 19 رمضان 1430هـ

العلاقة بالكاميرا مشحونة بنيَّة الفضْح!

شاعر اللقطة في حساسيتها ومجنونها بامتياز حسين المحروس:

هو شاعر اللقطة في حساسيتها ومجنونها بامتياز في مملكة البحرين. يجوب الأسواق... المقاهي... السكك بحثا عن تعبير يخلصه من عنائه وعناء اللقطة نفسها، وعناء الآخرين أيضا. اشتغاله على موضوعة الصورة مغايرا. مغايرا من حيث التكثيف الذي تضج به، ومن حيث كم الشعرنة الذي يكتنفها. شاعر اللقطة بامتياز. يظل حالا فارقة ومتميزة في مشهد عدسات تلهث وراء المؤتمرات الصحافية لجمعيات عمومية لمصارف وشركات استثمار. تظل جمعيته العمومية الحقيقية، الوجوه الهائمة في طرقات موحلة، ووجوه بائسة. بائسة بانفلاتها في الجهات والأزمنة. لقطة تصنع زمنها ومكانها. أمكنة يقتحمها دالا على النقيض. أزمنة خارج الأزمنة. ووجوها تكاد تطير فرحا بشقائها أو تكاد تطير بأرواح الذين وضعوها في ذلك الشقاء. وقبل ذلك كله، لقطة تصنع حساسيتها الملفتة.

حسين المحروس في امتيازه وجنونه وشاعريته في حساسية اللقطة، لم يتردد في القول: «ما لم تكن علاقتك بالكاميرا مشحونة بنية الفضح، والفضيحة فلا يعوّل على تلك العلاقة». معه هذا الحوار:

لا أتعمد هنا تجاهل جانب كبير ومهم ومؤثر من اهتمامك (القصة/ الرواية)... لكنني أظل مشدودا إلى استفرازك العميق... قدرتك على التقاط - أحيانا - أنفاسنا عبر الكاميرا. هل تسعى إلى إشاعة الفضيحة أحيانا؟

- طبعا.. هذا مؤكد مثل تأكيد سقوطي خلال الشهر الماضي أغسطس/ آب الحرام في مزاج نفسي تافه. ما لم تكن علاقتك بالكاميرا مشحونة بنية الفضح، والفضيحة فلا يعوّل على تلك العلاقة. في نية المصور رغبة نحو الفضح غير المبالي وغير المحدود إلاّ أن تطبيقاته ينالها شيء من جبن وإحباطات المكان الذي يحيا فيه. في الكاميرا ما لا يمكن تقدير مداه من التحريض نحو الفضح ولا تقل الكتابة عنها في ذلك. المعتمد في ذلك هو زيغ العين، وأحيانا الأذن. الآن عندما أعود لقراءة نصي القصصي «أصوات الماء» أصاب بألم في العين لشدّة التعطيل الذي نالها، لتلك الجرأة على تعطيل زيغ العين، ولأنّ بلاغة الإذن ينالها من الغلط الكثير. الكاميرا بفعلها الفاضح - أيا كانت تلك الفضيحة- تكون في قمّة عفويتها. مَنْ قال إن العفوية ليس لها نيّة؟

صورك... لقطاتك نصوص. نصوص ليست بحاجة إلى سرد وهذا ما تعمد إليه أحيانا في حال إفساد. لقطاتك نصوص ناطقه... متحركة تفيض بالدم والعرق وحتى الآه والضحكة المجلجلة. لماذا تعمد أحيانا إلى إفساد ولجم حكمة الصورة وبلاغتها بثرثرة عابرة؟.

- حقا؟ أنا لا أعمد إلى ذلك. لكني أرى أن الصورة تحتاج إلى الكلام. أقول إلى الكلام وليس إلى اللغة فهي مكتفية بلغتها لكنها تحتاج إلى الكلام عليها. وما أفعله هو الكلام عليها، وهو ما يشبه القراءة على الآخر الذي من صفاته الكريهة أنّه لا يمكن أن يكون بديلا عن قراءة الشخص مهما كان القارئ عليك. إنّها تجربة غير شخصية، غير مباشرة، خالية من لمس، وهي ليست أنت، هي ذلك القارئ. الكلام على الصورة لا ينال منها، ولا يقلل من شأنها لأنّ الصورة تظلّ تحرض على تجدد الكلام عليها. هذا شيء من صفاتها. لذا يمكنك فصل الصور والبدء بالكلام عليها من دون النظر فيما كتب عليها سابقا. من صفات الصورة التجدد في العين فلا يخشى عليها من كلام هي تولّده وتنساه. في تجربة صفحات (مكان) الأسبوعية يحدث كل ذلك.

بالعودة إلى بلاغة الصورة. الكم الهائل من النص في تفاصيله يحيلك إلى حساسية اللحظة وتوقيتها. ثمة إغفال - على مستوى العرض والتناول والقراءة - بحريني/ عربي لهكذا محاولات مضيئة. أليس كذلك؟

- لست مطلعا على التجارب كلّها لكن الذي أعرفه منها متواضع جدا حتى الآن. ما الذي يحدث في تصوري؟ مصورون يجوبون بمعدات تزاحم بعضها البعض وتسمع صوت احتكاكها، تقنية عالية وغالية الثمن، تجمعات، معارض مشتركة باردة جدا. قد يلفت نظرك صورة هناك، وبورتريه عميق التكوين أحيانا لكنها تظل ... لا أعرف ماذا أقول لك العلّة كلّها في أمرين: تواضع ثقافة المصور ظنّا أنّها لا تفتح طاقته على الصورة. نسيت أن أخبرك أنّ الكامير ا تصيبك بشيء من الغرور ناجم من إمكاناتها، ومن تلك النعوت التي تُلحق بحاملها: تمكن عينيه، نفاذ بصيرته، قلّة أخطاء عينيه، وسرعته في الاستحواذ على موضوعاتها مهما كان شكلها، حبّه للجمال، وحساسيته للقطة. هذه الصفات تمكّن حاملها وتهبه شكلا غير عادي، فيظن أنّه مكتفٍ، قدير، بهيّ، خالق، وواهب للشيء شكله. الأمر الثاني هو غياب النقد البصري ما يفتح أكثر للممارسة العشوائية. سيأتي لاحقا الشخص الذي سيتناول هذه الصورة، يرجع إليها، يأخذ منها، أو يضعها في سياقات نصّية، أو يتأثر بها، بمجازاتها، أو تكون هي النص نفسه. هذا الشخص سيعتمد على مرجع لن يكون غنيا بما يكفي للتأسيس لنص جيد. هذه واحدة فقط من هذا الذي سميته أنت (إغفال) مع أنّي أحيانا أراه متعمدا ناتجا من قلّة التنوع، وقصر التجربة البصرية، وغياب المرجع فيها تقريبا. هنا نية واضحة هي ألا يثقف المصور نفسه. فإذا كان المرجع ضعيفا، تقليديا، ومتواضعا جدا لن يعطيك أكثر من الذي فيه: عرضا، توظيفا، تناولا، وقراءة.

في البحرين ستجد اللقطة السينمائية موضوعة بعناية في روايات الصديق أمين صالح. خذ على سبيل المثال «رهائن الغيب والذين هبطوا بصحن الدار بلا أجنحة» أحسست أني أشاهد فيلما لا أقرأ رواية، ومن دون أن يلتفت إحساسك إلى هذه اللقطة السينمائية لن تستمتع في الرواية، وأنك تستعجل، ولا ترفع عينيك لتلك الحركة في النص. عندما ينتهى فصل تشعر أن اللقطة انتهت، وأن ليس عليك مراجعة ما مضى، أو العودة إلى الصفحات السابقة.

في «حوَّام»... اللقطة حاضرة بعمق من خلال الصورة أيضا... ترسم بالكلمات صورا غاية في التعقيد والتلاعب بأطيافها. تلاعبت بأعصابنا في «حوام» بشكل مستفز وسادي أحيانا!

- هل عليّ تعويض المتضررين؟! لا أدري إن كانت «حوّامي» هي التي فعلت ذلك أمّ هي «حوّامك». في كلّ واحد منا «حوّام» تأخذه إلى ما فيه، لا إلى ما في رواية «حوّام». لو كانت «حوّام» خالية من الصورة، خالية من اللقطة بتعدد أشكالها لما كانت لها علاقة بي. الكاتب يأخذ منه، ويعوّل على مخزونه الذي يصعب في كثير من الأحيان معرفة تلك العروق التي مرّت فيها تجربته في الحياة، والقارئ حين يُقدم على قراءة نص ما يشترك ويشرك الكاتب في التجربة.. ما من لعبة، وما من استفزاز، وما من رغبة إلا وكان في صاحبها شيء يجعلها تبدأ منه. أمّا أطياف الصورة فهي غير بريئة على الإطلاق ولا يمكن الزعم أنها تخرج من الصورة وحدها. هي تضيء بالناظر إليها، وعلى قدر طاقة عينيه وفؤاده.

كثيرون أبدوا ملاحظات على «حوام». البعض اختزل الأمر في «فيلم جنسي» بالكلمات... شخصيات الرواية منفلتون/ عبثيون/ غرائزيون/ ضالون بالمعنى القيمي وليس الديني. ماذا تقول؟

- ولا شي... هي قراءاتهم ولا يمكنني مصادرتها، أو إعادة صوغها. إنّك لا تفرض النص فكيف تفرض شكل قراءته؟. أيضا لن تضع يدك على كلّ القراءات وتدعي أنك متمكن منها جميعا. لكني أهتم بهذه القراءات وهي ليست سلبية، لكن بعضها ربّما مستعجل ناقص، أو تحدث ضمن توجه ما مرجعه القارئ نفسه. قالت لي إحداهن وفي قولها شيء من الاستنكار الديني: ما هدفك من نص كهذا؟ فقلت لها: إفساد المجتمع؟! في «حوّام» طاقة جنسية مكتومة لكن الرواية ليست كلّها جنس. «مريم» لا تسمح لأحد أن يلمسها إلاّ إذا تأكّد لها حبّه. وفي الحبّ انفلات، وغريزة، ووعبث، وظلال وضلال بالمعنى القيمي والديني معا، وذاكرتها ممتلئة بسيرة الحبّ منذ صغرها. هل تذكر هذا المشهد من النص حين زارت صبي الحَمام «فيصل» في المستشفى وقد أوشك على الموت:

«- كنتُ كلما ذكرتكِ اشتريتُ حمامة.

قال ذلك بصوت مبحوح قطعته السعلات. ضغطتْ على يده وعلى شفتها العليا وسالت دموعها:

- إذا أعطاني الله عمرا جديدا سأبني قفصا جديدا، وأشتري حمامات جديدة، وأسمي أجمل الحمامات باسمك حتى لو ملأ اسمك القفص كلّه.

-وتلوّح لي بالحمام ثمّ تطلقه فتستغل انشغالي بها وتنظر في رقبتي وصدري؟

- هههههه.. كيف عرفتِ؟

- هههه أنا مريم يا صبي الحمام.

- كنت أطلق أجمل الحمامات لأشغلَ عينيك.

-كلما انشغلتْ عيناي تلفّت القلبُ إليك.

- لم أضحك منذ عتابك الأخير.

يحدث في القراءة أحيانا فعل انتقائي غير عادي يقوم بتراكم مشاهد معينة في النص مسلوخة من سياقاتها. كأن يراكم القارئ الأحداث الجنسية في النص فقط لا غير. عندها لن يرى في النص إلا هذا المحدود الذي قام بجمعه وتأليفه، لن يرى فيه إلا ما فيه هو لا ما في النص. لن أرمي كلّ شيء في سلّة القارئ لكن له القدرة على تشكيل هذه السلة، والرغبات التي يملؤها بها. هي سلته هو ولم يعد لي فيها شيء غير التحريض، وربّما بعض الاتصال الذي لا أفهم شكله أحيانا.

بالنسبة إليَّ «حوام» كانت تعبيرا عن الفضاء الخاص - ربما المحدود/ المحدد - ولكنه بأجنحة. أجنحة من رغبات/ سوانح/ وأحيانا أجنحة من انفلات. وهو انفلات بالمناسبة جميل. إلى أي الأجنحة كنت ترمي؟

- إلى الأجنحة المشحونة بطاقة الحمام في المرأة.. إلى إيمان زكريا بمقولته « النسوان حمام يا جماعة».. إلى انفلات مريم أحيانا إلى انتقامها من الصور التي حولها.. إلى سكينة فاطمة واطمئنانها.. إلى غدر الأخ غير الشقيق لزكريا.. إلى المكيدة بالصور.. إلى الشقق المفتوحة من أجل خاطر الأم.. إلى روح مرزوق المتعلقة بعطر عائشة وهو يقول «راحت عايشة تأتي عايشة». هذه الروح المتمكنة لا تجدها الآن، وهو إذ يفعل ذلك برقة لا قسوة فيها، فهو لا ينكرها لكنه لا يرغب أن يظل سجينها. أرمي إلى كلّ هذا المشيج من الانفلات.

لكن ألا ترى أن ثمة أمية مقيمة في تلقي الصورة/ اللقطة في بعدها النصي من حيث التوظيف. من حيث اكتنازه؟

- كنت على وشك أن أجري بحثا من هذا النوع يكشف عن توظيف الصورة الفوتوغرافية في النص الأدبي، أعني الرواية لكن عقبات كثيرة كانت تنتظرني منها قّلة هذا النوع من التوظيف. غالبا الصورة تحضر وثيقة في النص ودليلا على حدث ما كما في بعض رويات «أمين معلوف»، لكن لا يتمّ اللعب بها في النص بحيث تصبح مكونا أساسيا له سرديته الخاصة غير المنعزلة، ولا المنفصلة، ولا المارة في سرعة الشهب. هذه الأمية بدأت منذ تحريم الصورة، وتغييبها بحجّة أنها منافسة للخالق. الآن الاقتراب منها سرديا ربّما على استحياء. وهي لن تمكن نفسها إلاّ للذي أغلق نفسه عليها.

عودة إلى روايتك «حوام» كنتُ منحازا إلى شعرية اللغة. لغة تنطق عن امتداد هوسك بشعرنة اللقطة. هل كانت الكاميرا حاضرة في اشتغالك الشعري عليها؟


حسين عيسى المحروس

- روائي وفوتوغرافي، من مواليد المنامة، النعيم 21 مايو/ أيار 1964


الشهادات:

- التصميم الفنّي، معهد نيوهوريزن، البحرين 2007 .

- الماجستير في اللغة العربية (لغات) في جامعة البحرين 2000 في تحقيق المخطوطات.

- البكالوريو س في اللغة العربية في جامعة البحرين 1992 .


المعار ض الفنيّة:

سوق الجنّة، تصوير فوتوغرافي، البحرين، مركز الفنون، فبراير/ شباط 2005 .


الإصدارات:

- إذاعة البحرين سير الكلام/ سير وتاريخ، وزارة الإعلام. مملكة البحرين 2008 .

- حوّام/ رواية، المؤ سسة العربية للدرا سات والنشر،بيروت، 2008 .

- فرقة البحرين للمو سيقى.. نوتات التأسيس/ سيرة وصور، وزارة الإعلام. مملكة البحرين 2007 .

- المحرق وردة البحر/ صور الفنان عبد الله الخان لمدينة المحرق بين العام 1945 والعام 2007 ، بيت البحرين للتصوير،البحرين، 2007.

- إذاعة البحرين، صورة الكلام/حسين المحرو س، عارف العريفي، وزارة الإعلام. البحرين 2006.

العدد 2561 - الأربعاء 09 سبتمبر 2009م الموافق 19 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً