العدد 2561 - الأربعاء 09 سبتمبر 2009م الموافق 19 رمضان 1430هـ

أغاثا كريستي: فقدان ذاكرة، محاولة انتحار أم خبطة دعائية موفقة؟

يوم خرجت السيدة من عباءة رواياتها واختفت بدورها

تخيلوا المشهد، الريف الإنجليزي الأخضر، البرد القارس، القلق على وجوه الجميع. ألوف المتطوعين في سياراتهم يدورون حول المكان. ورجال الشرطة يديرون العملية كلها، بعدما اكتشفوا سيارة السيدة في وضع مشبوه، يوحي بأن في الأمر سرقة أو جريمة، أو - ربما على الأقل - انتحار من نوع مأسوي، وفي خضم كل ذلك تغزو صحافة الفضائح وصحافة الرجال المتأنقين الحمى، من حول الحادثة: تارة بنشر فرضيات وأحيانا، كما فعلت صحيفة «الدايلي نيوز» بنشر إعلان فحواه أنها مستعدة لدفع ألف جنيه لمن يقدم معلومات تفضي إلى العثور على السيدة... حية. لأنه مع مرور الوقت كان يتضاعف الأمل في العثور عليها جثة، بعد ما كان الاعتقاد يميل إلى اعتبارها منتحرة مقتولة.

في العادة، تحدث عمليات اختفاء كثيرة لرجال أو لسيدات، لكبار أو لأطفال. ونادرا كانت الصحافة أو الشرطة أو الناس جميعهم يهتمون مثل هذا الاهتمام. ولكن حين يكون الاختفاء، غامضا إلى هذا الحد، خصوصا حين تكون المختفية أغاثا كريستي، سيدة الروايات البوليسية، وحين تكون ظروف الاختفاء مشابهه تماما لما يحدث في روايات هذه السيدة التي كانت في ذلك الحين، ولا تزال حتى الآن، تعتبر الكاتبة الإنجليزية التي يقرأها الناس أكثر من أي كاتب آخر، بعد شكسبير، يصبح من السهل تفسير ذلك الاهتمام، وفهم السبب الذي جعل الناس يلتقطون أنفاسهم طوال الأيام العشرة التي غابت فيها أغاثا كريستي.


أسئلة بلا أجوبة

حدث ذلك خلال النصف الأول من ديسمبر/ كانون الأول 1926، في وقت كانت فيه أغاثا كريستي، ولا تزال بعد شابة، تعتبر سيدة الرواية البوليسية من دون منازع. ومنذ ذلك الحين، وعلى رغم أنه تم العثور عليها بعد أيام قليلة فإن أغاثا كريستي آثرت طوال حياتها أن تحيط تلك الواقعة بالصمت والتكتم، حتى تتهم أحيانا أنها، هي نفسها، قد نسيتها تماما حتى في سيرتها الذاتية بالكاد أتت على ذكرها.

ثم بالكاد أشارت إلى الأمر أيضا في كتاب آخر أصدرته لاحقا فيه مشاهد من حياتها بعنوان «صورة غير منجزة».

هل تراها نسيت الواقعة حقا؟ هل تعمدت تناسيها لأن فيها ما يدينها؟ هل كانت تخجل منها؟ أسئلة لم يجب عليها أحد، حتى قيض لسيرة أغاثا كريستي من يكتبها فحقق في الواقعة التي ينظر إليها عالم تاريخ الرواية البوليسية بوصفها واحدا من الألغاز الأكثر غرابة.

ولكن ما هي الحكاية بالتمام؟


المشكلة عائلية

الحكاية أن أغاثا كريستي التي كانت لا تزال صبية في ذلك الحين، اختفت طوال أيام عدة، بشكل كلي وراح الناس يبحثون عنها. ومنذ ذلك الحين، حتى وإن كان قد عثر عليها، لم يعرف أحد سر اختفائها، وتحولت الحكاية مع مرور الزمن إلى لغز يشبه الغاز روايات السيدة التي أصبحت بدورها، وكأنها شخصية طالعة من واحدة من تلك الروايات.

في العام 1926 كانت أغاثا كريستي في السادسة والثلاثين من عمرها. ظاهريا كان كل ما في حياتها يقول إنها سعيدة وناجحة، ناهيك عن كونها ثرية تدر عليها رواياتها مع ترجماتها إلى لغات أخرى مبالغ خيالية. لكنها في حقيقة الأمر، وكما عرف محبوها وقراؤها بعد ذلك، كانت تشعر بقدر كبير من التعاسة. صحيح أن ذلك العام بدأ بداية حسنة، حين زارت جزيرة كروسيكا مع شقيقتها وكتبت خلال إقامتها هناك واحدة من أجمل وأنجح رواياتها «سر القطار الأزرق» ولكن بالتدريج أخذت الأمور تتدهور، فوالدتها وقعت فريسة مرض خطير، أما من ناحية حياتها الزوجية فكان التدهور أخطر، إذ في صيف ذلك العام أدركت أغاثا أن زوجها من الكولونيل آرشي كريستي لم يعد على ما يرام. فهو لم يعد، فقط، يهتم برياضة الغولف أكثر من اهتمامه بزوجته، بل صار يهتم أكثر بقريبة لهذه الزوجة تدعى نانسي نيل. وتدهورت الأمور أكثر وأكثر حين أسر آرشي لأغاثا بأنه عازم على الطلاق منها لكي يتزوج نانسي. كان ذلك صباح الثالث من ديسمبر/ كانون الأول. قال الكولونيل هذا الكلام لزوجته، ثم ركب سيارته وتوجه إلى حيث يعتزم تمضية عطلة نهاية الأسبوع مع زوجته المقبلة.


وجن جنون أغاثا...

أمضت ذلك النهار كله في حزن وغضب نسيت هدوءها المعتاد. نسيت مكانتها عند الناس. نسيت نجاحها الكبير وغيرة زوجها من هذا النجاح. وتذكرت فقط أنها امرأة مغدورة، ضعيفة، وهكذا بدأت الحكاية.

في مساء ذلك اليوم تركت أغاثا ابنتها روزالند نائمة في المنزل، وقادت بدورها سيارتها إلى جهة مجهولة، واختفت لكن بعدما كتبت رسالتين، أولاهما موجهة لآرشي لن يعرف أحد محتواها، أما الثانية ففيها كلمة مقتضبة لسكرتيرتها تطلب منها أن تلغي كل مواعيدها لأنها ذاهبة إلى يوركشاير.

بعد حين سيقول ضابط شرطة مسئول إنه بدوره تلقى رسالة من الكاتبة.


سيارة ومعطف وحقيبة

مهما يكن فإن أغاثا كريستي اختفت منذ تلك اللحظة. ويبدو أن الرسالة التي سيقول ضابط الشرطة إنه تلقاها هي التي زرعت كل أنواع الاضطراب ، إذ تقول أغاثا في الرسالة إنها تشعر بأن حياتها مهددة وتطلب العون.

ولم يكن رجال الشرطة ولا رجال الصحافة بحاجة لأكثر من ذلك حتى يتحركوا.

ومع هذا، كان هناك ما هو أكثر. إذ في اليوم التالي للاختفاء عثر فتى غجري يدعى جورج بست على سيارة متروكة وسط الطريق في منطقة سياحية تدعى نيولاندز كورنر، بالقرب من بحيرة سايلنت بول. تبين بسرعة أن السيارة هي سيارة الكاتبة المختفية. ومما زاد الطين بلة أن السيارة كانت مغطاة بالثلوج الموحلة، ومصابيحها لا تزال مضاءة. وفي داخلها معطف من الفرو وحقيبة صغيرة فتحت بالقوة وفيها ثلاثة أثواب وزوجان من الأحذية ورخصة قيادة لم تعد صالحة باسم أغاثا كريستي.

إذن ها هي السيارة في حالتها المثيرة للشبهات. وها هي صاحبتها غير موجودة. وخلال الأيام القليلة المقبلة التالية في الوقت الذي كان البحث فيه جاريا على قدم وساق، من قبل مئات رجال الشرطة وألوف المتطوعين، كانت أعمدة الصحف تمتلئ بالأخبار والفرضيات والحوارات والتعليقات. كان كل ذلك يدور بالطبع حول اختفاء السيدة. وكان ثمة ما يشبه الإجماع على أن في الأمر إما انتحارا أو جريمة. وفي وسط ذلك كان إعلان صحيفة «الدايلي نيوز» عن المكافأة لمن يدلي بأية معلومات.

وحده يومها الكاتب ادغار والاس كتب مقالا في صحيفة «دايلي ميل» قدم فيه فرضية سيكولوجية تستبعد انتحار أغاثا كريستي أو مقتلها وتقول إن في الأمر، بالأحرى، اختفاء متعمد غاية صاحبته منه أن «تعاقب ذهنيا» شخصا أساء إليها بتحميله مسئولية ما يحدث لها وجعله يعاني من عذاب الضمير طوال فترة غيابها. بل أكثر من هذا جعله، ولو بشكل مؤقت، ينظر إليه وكأنه قاتلها. وكان والاس يعني بهذا، بالطبع، آرشي زوج أغاثا كريستي.

والحقيقة أنه، وتبعا لأعرق تقاليد الحكايات البوليسية اتجه بعض الظنون نحو آرشي كريستي، وهو نفسه قال لزميل له قلقا «إنهم يعتقدون بأنني قتلت زوجتي».

وكانت هذه الفرضية، على أي حال واحدة من الفرضيات الرائجة.

فالحال أن كل الفرضيات كانت محتملة، وكان الأمر لا يعدم تطوع «شهود عيان» يأتون من تلقاء أنفسهم إلى دوائر الشرطة إلى دور الصحف، ليقول بعضهم إنه شاهد سيدة تشبه الكاتبة، هائمة على وجهها في هذا المكان، أو ذاك، ويؤكد بعضهم الآخر، أنه سمع عن جثة لسيدة في تلك الزاوية أو هذه. ولم يعدم الأمر أيضا عالم كيمياء من معارف أغاثا كريستي قصد مركز الشرطة ليقول إنه عرف من أغاثا اهتمامها بالتعرف على أفضل وسائل الانتحار. باختصار كل الفرضيات طرحت، وتحدث العشرات عن امرأة تهيم على وجهها مرة في ليفربول ومرة في ساكس وأخرى في هامبشاير أو على الطريق المؤدية إلى بيترسفيلد.

وتفاقم الوضع طوال أسبوع حيث اشتركت أربعة أجهزة للشرطة في البحث وازدحمت أعمدة الصحف وراح القلق يشتد. كل هذا وليس من أثر حقيقي للكاتبة. طبعا خلال ذلك الأسبوع ازدادت مبيعات كتبها بشكل استثنائي وراح «الشاطرون» يبحثون في ثنايا الكتب عما قد يكون من شأنه أن يبرر ما يحدث. وفي نهاية الأمر، وبعد صمت فيه مسحة كبرياء كما فيه مسحة من تأنيب الضمير، اضطر الكولونيل آرشي كريستي لأن يدلي لصحيفة «الدايلي نيوز» بتصريح قال فيه:

- لقد قالت لي زوجتي منذ بعض الوقت أنه سيكون من شأنها أن تختفي ذات يوم، بالطريقة التي تختارها.

وأنها تتحدى أيا كان أن يتمكن من العثور عليها. وهذا ما يدلل على أن الرغبة في تنظيم عملية الاختفاء هذه كانت تأكلها منذ وقت.

لذلك، حسب آرشي، كان كل شيء منظم سلفا من قبل زوجته الغاضبة.


الصحافة تسبق الشرطة

ولم يكن آرشي الوحيد الذي أكد هذا، إذ كان ثمة من بين الصحافيين من قال إن العملية بكاملها مدبرة من قبل الكاتبة الحاذقة، على سبيل الدعاية لروايتها الجديد. صحيح أن الزمن المقبل عاد وبرهن على أنه لم يكن هناك لا تدبير ولا أي شيء من هذا القبيل. ولكن بالفعل كانت العملية كلها «خبطة» دعائية من نوع نادر والتي تذكرنا أن أحدا، حتى ولا أغاثا كريستي نفسها لم يمط اللثام عن حقيقة ما حدث طوال العقود التالية يمكننا أن ندرك حقيقة هذه «الخبطة» حتى ولو كانت غير مقصودة.

فنحن نعرف بالطبع أنه قد عثر على أغاثا كريستي، في اليوم الحادي عشر لاختفائها وأنها على الفور عادت إلى حياتها الطبيعية. ولكن زمن طويلا مر قبل أن يكشف عن طريقة العثور عليها واليوم، بما توافر من معلومات، وبتركيب الأحداث فوق بعضها البعض، يبدو كل شيء واضح ومنطقيا.

إذ، بعد نشر صور أغاثا كريستي وبعد انتشار حكاية اختفائها كل ذلك الانتشار، كان فوق الطبيعي أن ينتهي أحد ما إلى قول ما من شأنه أن يوصل إليها وإلى الحقيقة وهذا «الأحد ما كان عازف موسيقى في فندق يدعى هيدروبانيد في منتجع هاروغيت المنزوي بالقرب من يوركشاير. فهذا العازف اتصل ذات يوم برجل الشرطة ليقول لهم إنه يشتبه في أن سيدة تنزل في فندق اسمها «السيدة نيل» هي السيدة المختفية. وبسرعة أرسلت الشرطة محققا ليراقب السيدة المذكورة. لكن الصحافة كانت - وكما هو عهدها دائما - أسرع، إذ بعثت «الدايلي نيوز» بمحرر شاب يدعى كالدرإلى قاعة الفندق وما إن لمح السيدة نيل حتى تقدم منها وناداها قائلا: «سيدة كريستي كلمة من فضلك». وبسرعة تجاوبت السيدة معه، حسب ما روى بعد ذلك وقالت له إنها تعتقد بالفعل أنها السيدة كريستي، لكنها لا تعرف ما الذي تفعله ها هنا، مضيفة أنها ربما كانت تعاني من حالة فقدان ذاكرة جزئية. ثم تركته وتوجهت إلى غرفته فيما راح هو يواصل تحقيقاته لدى إدارة الفندق ليتبين له أن هذه السيدة مسجلة باسم السيدة تيريزا نيل وتقول إنها من مدينة الكاب في جنوب أفريقيا، أتت إلى هنا لتقضي فترة من النقاهة بعدما فقدت ابنا في حادث أليم.


لم أعد أذكر شيئا

كان من الطبيعي أن تصل الشرطة في تلك الأثناء، لكنها آثرت أن تراقب الأوضاع عن كثب قبل أن تتدخل، بل بعثت تطلب الكولونيل آرشي كريستي الذي وصل بعد ظهر اليوم نفسه، وبسرعة تعرف على زوجته إذ كانت تعبر بهو الفندق، فنادها. فتوجهت نحوه من دون أن تشعر بأدنى ارتباك ملتفتة إلى مجموعة من الزبائن قائلة لهم «غريب... إنه أخي قد وصل إلى هنا لتوه!».

واحد من الزبائن الذي رأوا المشهد قال بعد ذلك إن الزوجين جلسا على الفور متباعدين على مقعدين قرب مدفأة البهو وأمضيا ليلتهما من دون أن يتفوها بكلمة. أما الكولونيل فأدلى للصحافة بتصريح قال فيه: «ليس ثمة أي شك في الأمر. السيدة هي زوجتي وقد تعرّفت عليها.

كل ما في الأمر أنها وقعت ضحية لفقدان الذاكرة بحيث اعتقد أنها لا تعرف الآن من هي حقا. عندما رأتني لم تتعرّف علي وأعربت عن جهلها للمكان الذي توجد فيه. أعتقد أنها بحاجة لبعض الراحة والهدوء. وغدا سأصطحبها إلى لندن لكي تستشير طبيبها واختصاصيين».

وبالفعل نشر طبيبان واختصاصي في الأعصاب، بعد أيام تصريحا قالوا فيه إن أغاثا كريستي تعاني حقا من فقدان للذاكرة، وأنها يجب أن تظل في منأى عن أي قلق وازعاج وكان هذا يعني أنه يجب ألا تطرح عليها أية أسئلة.

ولم يطرح أحد أية اسئلة عليها. لكن الصحافة التي أغاظها هذا كله عادت لتؤكد أن أغاثا كريستي رتبت العملية بكاملها على سبيل الدعاية.

وآثرت كاتبتنا الشهيرة أن تصمت. وظلت صامت طوال عقود من السنين. طلقت زوجها بعد ذلك. وزادت مبيعات كتبها. وابتكرت مئات الشخصيات. قتلت بعضها ووضعت بعضها في السجون. وفي روايات لها اختفت نساء كثيرات وغدر بنساء أكثر. وهوجمت سيدات وخان رجال زوجاتهم. وفي خضم ذلك كله ظلت صامتة. وكان يمكننا أن نقول إنها أخذت سرها معها إلى القبر، السر المتعلق باختفاء عشرة أيام هزت بريطانيا وصحافتها. لولا أن كاتب سيرتها تشارلز أوزبورن أقنعها قبل رحيلها بشهور قليلة بأن تعود إلى ذكرى ما حدث فعادت، ثم نظرت إليه بشيء من المكر وقالت: صدقني لم أعد أذكر أي شيء عن هذا الأمر.

@من كتاب «حكايات صيفية»

العدد 2561 - الأربعاء 09 سبتمبر 2009م الموافق 19 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً