العدد 2358 - الأربعاء 18 فبراير 2009م الموافق 22 صفر 1430هـ

النمو المراعي للبيئة

الحافز الاقتصادي هو شعار اليوم، ولا بأس في ذلك حيث تجاهد الحكومات في جميع أنحاء العالم من أجل بعث الحياة في الاقتصاد العالمي. ولكن حتى في الوقت الذي يسعى فيه الزعماء لتوفير الاحتياجات الفورية اللازمة لتنشيط الاقتصاد، فإنه يجب عليهم أيضا أن يتعاونوا على كفالة أن يكون النموذج الاقتصادي الجديد الذي يجري وضعه بحكم الأمر الواقع نموذجا قابلا للاستدامة بالنسبة إلى كوكبنا ومستقبلنا على هذا الكوكب.

إن ما نحتاج إليه هو كل من الحافز والاستثمارات الطويلة الأجل التي تحقق هدفين في وقت واحد باستجابة تتمثل في سياسة اقتصادية عالمية واحدة - أي سياسة تلبي احتياجاتنا الاقتصادية والاجتماعية الملحة والفورية وتخلق اقتصادا عالميا جديدا يراعي البيئة. وخلاصة القول، فإننا نحتاج لأن نجعل شعارنا «النمو المراعي للبيئة».

أولا، إن الركود العالمي المتزامن يستلزم استجابة عالمية متزامنة. فنحن بحاجة إلى حافز وتنسيق مكثف للسياسة الاقتصادية بين جميع الاقتصادات الرئيسية. ويجب أن نتجنب اعتماد سياسات تكون على حساب الآخرين والتي كانت قد أسهمت في الكساد الكبير. والتنسيق حيوي أيضا من أجل الحد من التقلب المالي وتخاطف العملات واستفحال التضخم فضلا عن استعادة ثقة المستهلكين والمستثمرين. وفي واشنطن في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أعرب زعماء مجموعة العشرين عن تصميمهم على «تعزيز التعاون والعمل معا من أجل استعادة النمو العالمي وتحقيق الإصلاحات اللازمة في النظم المالية العالمية». وينبغي تحقيق هذا الأمر على وجه الاستعجال.

إن الغرض من الحافز الاقتصادي هو بعث الحياة في الاقتصاد، ولكن إذا تم التخطيط لهذا الحافز وتنفيذه على وجه سليم فإنه يمكن أن يضعنا أيضا على طريق جديد تنخفض في أجوائه انبعاثات غاز الكربون ويفضي بنا إلى نمو يراعي البيئة. لقد أعلنت 34 دولة عن حوافز تبلغ قيمتها نحو 2250 مليار دولار (1750 مليار يورو، 1569 مليار جنيه). وهذا الحافز، فضلا عن مبادرات جديدة أعلنت عنها بلدان أخرى، يجب أن تساعد الاقتصاد العالمي على دخول القرن الحادي والعشرين، لا على إدامة صناعات آيلة للموت وعادات سيئة من مخلفات الأمس. بل إن الإمعان في صبّ آلاف مليارات الدولارات على هياكل أساسية تستند إلى غاز الكربون ودعم الوقود الأحفوري هما أشبه بالعودة إلى الاستثمار في العقارات الممولة بقروض بسعر المخاطرة.

ومن شأن إلغاء الدعم المالي الذي تبلغ قيمته 300 مليار دولار سنويا للوقود الأحفوري في العالم أن يخفض انبعاثات غاز الدفيئة بنسبة 6 في المئة وأن يزيد من الناتج المحلي الإجمالي في العالم. كما أن تطوير مصادر متجددة للطاقة سيساعد في المجالات التي نحن في أمسّ الحاجة إليها. فلقد باتت حصة الاقتصادات النامية تشكل 40 في المئة من المصادر المتجددة الحالية في العالم و70 في المئة من تسخين المياه بالطاقة الشمسية.

وبدأ الزعماء في كل مكان، ولاسيما في الولايات المتحدة والصين، يدركون بأن مراعاة البيئة ليست مجرد خيار بل ضرورة لشحن اقتصادات بلدانهم بطاقة جديدة ولخلق فرص عمل. وعلى الصعيد العالمي، ثمة 2.3 مليون إنسان يعملون في قطاع الطاقة المتجددة، أي أن عدد الوظائف في ذلك القطاع يفوق عددها بصورة مباشرة في صناعتي النفط والغاز. وفي الولايات المتحدة، يفوق عدد الوظائف الآن في الصناعة الرياحية عددها في الصناعة الفحمية كلها. وإن حزمتي الحوافز اللتين أعلن عنهما كل من الرئيس باراك أوباما والصين تمثلان خطوة بالغة الأهمية في الاتجاه الصحيح، ويجب تنفيذ العناصر المراعية للبيئة فيهما على وجه السرعة.

ونحن نحث جميع الحكومات على الإسراع في تنفيذ العناصر المراعية للبيئة في الحوافز، بما في ذلك الكفاءة في استخدام الطاقة، والمصادر المتجددة، ووسائط النقل الشعبية وشبكات الكهرباء الذكية الجديدة وإعادة التشجير، وأن تنسيق جهودها لتحقيق نتائج سريعة.

ثانيا، نحن بحاجة الآن إلى سياسات «تراعي مصالح الفقراء». ففي معظم بلدان العالم النامي، ليس لدى الحكومات خيار الاقتراض أو طبع الأموال للتخفيف من حدة الضربات الاقتصادية المدمرة. ولهذا السبب، يجب على حكومات البلدان المصنعة أن تمدّ يدها إلى خارج حدودها وأن تستثمر في برامج فعالة من حيث التكلفة ترفع وتيرة الإنتاجية في أكثر البلدان فقرا. ففي العام الماضي، اجتاحت أعمال الشغب والقلاقل بسبب الغذاء أكثر من ثلاثين بلدا. ومما لا يبشر بالخير، أن تلك الأحداث اندلعت حتى قبل انفجار الأزمة المالية في سبتمبر/ أيلول، والتي قدحت زناد ركود عالمي أسفر عن تعميق حالة الفقر التي يعيش فيها مئة مليون إنسان. لذلك يجب أن نعمل الآن للحيلولة دون وقوع مزيد من المعاناة ولمنع الانتشار المحتمل للاضطرابات السياسية.

وهذا يعني ضرورة زيادة المساعدة الإنمائية الخارجية هذا العام. كما يعني تعزيز شبكات الأمان الاجتماعية. ويعني الاستثمار في قطاع الزراعة في البلدان النامية من خلال توفير البذور والأدوات والممارسات الزراعية المستدامة والقروض لصغار المزراعين حتى يتمكنوا من إنتاج كمية أكبر من المواد الغذائية وطرحها في الأسواق المحلية والإقليمية.

كذلك فإن السياسة التي تراعي مصالح الفقراء تعني زيادة الاستثمار في عملية تحسين استخدام الأراضي وحفظ المياه، وفي المحاصيل المقاومة للجفاف لمساعدة المزارعين في التكيف مع تغير المناخ، لأنه إذ ترك الأمر على حاله فقد يؤدي إلى انتشار الجوع وسوء التغذية بصورة مزمنة في قطاعات واسعة من العالم النامي.

ثالثا، نحن بحاجة إلى اتفاق قوي بشأن المناخ في كوبنهاغن في ديسمبر/ كانون الأول. لا في العام المقبل، بل في هذا العام. ويجب تسريع خطوات المفاوضات بشأن المناخ إلى حد كبير وإيلاؤها الاهتمام على أعلى المستويات اعتبارا من اليوم. وإن نجاح الاتفاق في كوبنهاغن يتيح أقوى حزمة حوافز ممكنة في العالم. وعندما يتوفر للشركات التجارية والحكومات إطار مناخي جديد، فإنهما ستكون لديها أخيرا إشارة سعر الكربون التي ما برحت الشركات التجارية تطالب بها، أي الإشارة التي من شأنها أن تطلق موجة من الابتكار والاستثمار في الطاقة النظيفة. وستعطي كوبنهاغن الضوء الأخضر للنمو الذي يراعي البيئة. وهذا هو أساس الانتعاش الاقتصادي المستدام حقا والذي يعود بنفعه علينا وعلى أولاد أولادنا طوال عقود مقبلة.

إن ملايين الناس من ديترويت إلى دلهي يمرون بأسوأ الأوقات. فالأسر فقدت وظائفها ومنازلها والرعاية الصحية وحتى فرصة تأمين وجبة غذائها المقبل. وفي خضم هذه المخاطر، يجب أن تكون خيارات الحكومات خيارات استراتيجية. ويجب علينا ألا نسمح للأمور العاجلة بأن تقوّض الأمور الأساسية. فالاستثمار في الاقتصاد الذي يراعي البيئة ليس نفقة خيارية، بل هو استثمار ذكي لتأمين مستقبل أكثر عدلا ورخاء.

* الأمين العام للأمم المتحدة

** نائب الرئيس الأميركي سابقا

العدد 2358 - الأربعاء 18 فبراير 2009م الموافق 22 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً