العدد 2379 - الأربعاء 11 مارس 2009م الموافق 14 ربيع الاول 1430هـ

الأمن الغذائي بين السياسة والاقتصاد!

يعتبر الفقر همّا اجتماعيا كبيرا! وهو فضلا عن ذلك، قضية سياسية واقتصادية بامتياز، والباحثون عادة، يعرّفون على أساس مستوى دخل الفرد أو الأسرة، أو هو حصول الفرد أو الأسرة على قدر من الدخل يعبّر عن مستوى منخفض من المعيشة.

لا شك هناك مؤشرات مختلفة على ظاهرة الفقر، منها معدل البطالة، كمية الإنتاج والاستهلاك، الأجر المنخفض، وعدم تكافؤ الفرص، من النواحي التعليمية والمهنية والأمور السياسية... بيد أنه ليس ثمة معيار محدد أو ثابت لبيان خط الفقر، فالنسبة تختلف من بلد إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، كما لا يعد الحجم الكبير في دخل وموازنة الدولة، مؤشرا على غنى المواطنين ورفاهيتهم؛ ولا حتى مساحة الأراضي الشاسعة والصالحة للزراعة، وغناها بالموارد، أو حتى جدبها وقحطها، ليس ذلك هو الدليل على حال المواطنين في الثراء أو الفقر، كل هذا بالأساس يعود إلى السياسة الزراعية، أو السياسة الاقتصادية على العموم، وإلى طبيعة النظم الحاكمة بوجه الحصر خصوصا.

إن مناولة مسألة الأمن الغذائي بالعرض والتحليل، ومحاولة تجاوز حالة الفقر، ليست بالمهمة السهلة، بل هي في غاية الصعوبة والتعقيد... فكثير من الدول تفتقر إلى دراسات متخصصة للوقوف على أسباب الفقر والجوع والحرمان وبالتالي معالجة هذه الأسباب... فمنهم من يحمّلون مؤشرات تزايد السكان بانخفاض المستوى المعيشي، وعلى العموم لا يمكن لنا أن نحمّل الطبيعة وحدها الفقر والجوع؛ ولا حتى تزايد السكان، فبدراسة معمقة يمكن لنا أن نضع حدا لقلقنا، ونتجاوز مشاعرنا بلوم أنفسنا، عندما نعي إلى أن أسباب الفقر ليست لعيب فينا؛ فإن الجائعين يمكن لهم أن يتحرروا من جوعهم، ويتجاوزوه، بعد أن يتعرفوا على أسبابه، فالطبيعة ليست هي السبب، بل إن جشع الإنسان، هو المسبب في الحالة المزرية التي يعيشها أخوه الإنسان.

فالإحصائيات تشير وتؤكد على إمكان الطبيعة من توفير الغذاء لكل إنسان، وبالوسع استثمار الأراضي بمساحات أكبر، وزيادة الإنتاج كمّا ونوعا، واتباع سبل التحديث الزراعي، ولا يتحقق ذلك إلا بالسيطرة العادلة والديمقراطية على إنتاج الموارد، واستثمار الثروة الناتجة عن الأرض للتنمية في حقول أخرى، وهنا ينبغي على الحكومة أن تساهم من جانبها في تنمية وتطوير الريف، وتحسين شروط القروض، لكي تحفز الفلاحين الفقراء، والعمال الزراعيين لتحسين كمية ونوعية محصولهم، والحقيقة أن هؤلاء لن يدخروا جهدا فيما لو أحسّوا بأن شطرا محسوسا من ريع المحاصيل يعود إليهم، بحيث لا يستأثر بها المالك وحده، أو تصادرها الدولة بتعويضات زهيدة.

لقد كان فيما مضي الجفاف والفيضانات والآفات الزراعية من المسببات القوية في المجاعة والفقر، لكن كثيرا من الدول قيض لها أن تحد من أخطار هذه المسببات، فعمدت إلى الاهتمام بشبكات الري، ومقاومة الآفات الزراعية، فأمدت الفلاحين بالمبيدات والسماد اللازمين، كما قامت بتشجيعهم بمزيد من الحوافز.

فالإصلاح في الاقتصاد والسياسة متلازمان، فلابد هنا من سياسة اقتصادية سليمة، ونظام سياسي ديمقراطي عادل، وتحديث مضطرد، في التكنولوجيا، وتطوير وتحسين في علاقات الإنتاج.

نعود فنقول إن مساحة الأراضي، حتى حين جدبها الظاهر، ليس بمؤشر على سبب تفشي الفقر والجوع، إنما يعود ذلك إلى السياسة الزراعية لأية حكومة كانت، إلى سياسة سوء استخدام واستثمار الأرض... فالسودان مثلا تعتبر سلة الغذاء العالمي لو أحسن التصرف من قبل النظام الحاكم، ومع ذلك يعيش سكانها في فقر وجوع، وتجتاحها مجاعات بين حين وآخر حتى إلى وقت قريب، والسبب يعود إلى سوء إدارة النظام وسيطرته، والتحكم السيئ في الموارد الإنتاجية، فلا بد هنا من إعادة النظر في سياسة توزيع الأراضي، وأشكال الاستثمارات، وما يستلزم ذلك من إصلاحات مضطردة في أكثر من صعيد.

إن السلطات السودانية المتعاقبة على الحكم، هي التي تتحمل مسئولية ما آل إليه وضع السودان، على رغم هذا فالحالة السودانية غير ميئوس منها، لو جيء بمن يحكم بالعدل والديمقراطية وأحسن التصرف، وسعى جادا لمعالجة الحالة، واندار إلى التنمية والتطوير في مختلف الحقول، وركز على الاستثمارات، وادخل العلم في حيز الإنتاج.

إن الصين اجتاحتها موجات من المجاعة في الماضي، بسبب الفيضانات من ناحية، والجفاف من ناحية أخرى، وكانت الضحايا البشرية بالملايين، لكنها أولت أخيرا اهتماما كبيرا، لخلق نظام زراعي، يجنبها من كوارث الفيضانات والجفاف، فعمدت إلى تحسين مجرى الأنهار، وحفر ما يشبه الخزانات بين الجبال، وحبس المياه في الأنفاق والانتفاع بالمياه الجوفية، ومن آلاف الآبار، فوضعت بالتالي حدا لمعاناتها، وجنبت البلاد الكثير من الكوارث.

إن الزراعة التي كانت تؤكل الملايين في ظرف ما، لابد أن تعود لتلعب دورها، لابد من تجاوز القوانين الزراعية المتخلفة، والسياسة الاقتصادية المركزية المتشددة؛ إن التنمية البشرية، واكتساب الخبرة والكفاءة، وتشجيع الاستثمارات، واتباع سياسة اقتصادية رشيدة، مؤسسة على دراسات علمية، هي الطريق إلى النجاح الأكيد لأية أمة من الأمم.

ليس كافيا أن نقف عند معاني ومفاهيم الفقر بالعرض والتحليل، إذ لابد أن يتبع ذلك التفكير عن البحث وصناعة البدائل لتجاوز الحالة، وهذا يتطلب وعيا ونضالا مستميتا، فالفقر والجوع ليسا قدر الشعوب؛ فلابد إذن من النضال السياسي في أكثر من صعيد، فما عرف عن دول النمور الآسيوية، أن بعضها كانت قاحلة، ضعيفة بالموارد، ومنها من اتسمت بمناخ وبيئة جغرافية غير مؤاتية، وكانت متخلفة وفقيرة، على رغم كل ذلك شهدت هذه الدول مرحلة من التنمية البشرية والاقتصادية والثقافية، فأصبحت اليوم تضاهي الدول الأوربية في تطورها، وينعم شعبها بحالة من الرخاء والاستقرار، أليس كل هذا يعود إلى طبيعة تلك النظم؟ فالنمور الآسيوية اتبعت سياسة اقتصادية حرة (ليبرالية) ونبذت المركزية المشددة، والتخطيط السلطوي، وأعطت الفرد كامل الحرية ففضلا عن الحقوق الفردية أمده بحرية النشاط في مختلف الميادين، الاقتصاد والسياسة.

نضع هذا التساؤل أمام السادة حكام العرب برسم الأمانة، ولننتظر الجواب؛ فهل سينزعون الأغلال عن أعناق شعوبهم لينطلقوا ويبدعوا؟!

*كاتب وباحث من سورية، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية»

العدد 2379 - الأربعاء 11 مارس 2009م الموافق 14 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً