«يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي» (27، 30:الفجر).
بدلوا العالم، وتغيرت قيمهم ومبادئهم، وقسموا العالم إلى قسمين أو أكثر، وانقسم الناس ما بين مؤيد ومعارض، وبين مشاهد ومتفرج، وبين الخير والشر، وبين الفساد والإصلاح، وبقيت سيدي على ما أنت عليه، على ما تربيت عليه، على القيم والمبادئ الأصيلة الصادقة التي لا تتبدل ولا تعرف الخداع ولا النفاق ولا الفساد. فبقيت فاضل القيم، فاضل التواضع، فاضل البساطة، فاضل الطيبة، فاضل الأب، فاضل الأخ، فاضل الصديق، فاضل من لبس لباس الصبر، واحتسى من كأس كظم الغيظ، وبقى صابراً وصامداً أمام موجات الشر والفساد.
عرفناك وعرفك الآخرون ببشاشة الوجه في هذه الدنيا ولكن ما لم يعرفه الكثير عنك إنك حتى بعد رحيلك، وحتى بعد رحيل الروح لبارئها، ظلت البشاشة والابتسامة المعهودة على وجهك.
نعم يتحلل الطين، وتبلى المادة، ولكن تبقى الذكرى الطيبة ويبقى العمل الصالح كنز الإنسان ليوم لا تنفع فيه كنوز وأموال ومخلفات هذه الدنيا الفانية. رحل الإنسان الطيب فاضل وأبقى من الذكرى ما يؤهله لكي يسكن في قلوب الكثير ومن العمل الطيب ما زرعه لكي ينتفع به ذلك اليوم، ومن الأبناء أربعة ومن المحبين الكثير يدعون له بعد الرحيل.
رحل فاضل مظلوماً ولم يرحل ظالماً، رحل كما يرحل الأبطال، رحل كما قال الحسين(ع): «إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما»، رحل رحيل إنسان شريف لم يدخل عالم الخداع والزور والنصب والاحتيال، رحل رحيل مزارع فقير لا يمتلك إلا قوت يومه، رحل وترك علامات غامضة خلفه، أكرهت الأنانية وحب الذات والشر والفساد أن يعيش إنسان طيب ما بينها؟ أكرهت أن يربي هذا الفقير المسكين أبناءه؟
ابتلى فاضل في نهاية حياته بابتلاءات عدة، ما عرفت معه سبيلاً غير الصبر وكظم الغيظ، صبر صبر واثق بالفرج، طالباً للأجر، فهنيئاً لك ذلك الصبر الجميل، وهنيئاً لك ذلك الإيمان الصادق الممدوح في كتاب الله: «والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين» (134:آل عمران). هكذا كان الرسول الأمين وهكذا كان أهل بيته، تقع المصائب على رؤوسهم كأنها قطرات ماء باردة، لو صبت مصائبهم على الأيام لأصبحن لياليا، وهم في عزم الحق وثبات الجبال، يتقبلون الإساءة ويردونها إحساناً. ما عرفناك إلا صابرا وما عرفناهم إلا صابرين، قال تعالى: «ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين» (البقرة:155) اللهم اجعلنا من الصابرين المحتسبين.
ما يسكّن المصاب، هو إن رحلت الروح، فقد عرجت إلى رب عادل كريم، وإن رحل الجسد، فهو بجوار أخيك الشهيد السعيد، ولكن هيهات أن ترحل من ذاكرتنا. رحلت رحيل الخيال، وخلفت أجمل الذكريات، وهي وإن كانت كلمح البصر، لكنها ستبقى خالدة في الوجدان، ستبقى ذكراك الطيبة وأيامك الحلوة ولياليك الجميلة، ستبقى مهما طال الزمان، سنبقى نذكرك حتى الممات، ستبقى حياً مع كل ميلاد للشهيد، ستبقى حياً مع كل فجر جديد، ستبقى حياً مع ولادة كل شخص طيب طاهر شريف.
يا رحمة الله جاوري قبر الفقيد
وأنيري ظلمة القبور في الليالي ولازمي قبر الشهيد
أخذت الشهادة جميلاً والظلم يخطف فاضل الحميد
فجميل قد شبع التعذيب من جسده، وفاضل قد تركه الظلم على الحديد
وفوق ذلك قالوا قالوا جميل مريض بكبده، وفاضل قد سقط من مكان بعيد
أيصيب الكبد من يديم التبرع بدمه؟! أم يسقط الإيمان بدون قطرة دم؟! ذلك هو الضلال البعيد
رحلوا وتركوا غصة ووحشة في القلب الوحيد
رحلوا وتساقطت الهموم والغموم حتى ذاب منها الحديد
وبكت السماء عليهم والزمان والرجل الشديد
شكوانا نبثها إليك يا رب، وننتظر منك القصاص السديد
لمن كان في رحيل أحبتنا سببا، ولكل ظالم لا يخشى الوعيد
فهيهات أن تنسى الأرض الدم، وهيهات أن يضيع حق الشهيد
يوم يستنصر المظلوم بالجبار، ويخيب كل جبار عنيد
من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد
نسي بأن للمظلوم ربا، ونسي بأن بطش ربك لشديد
يا أيها الليل الطويل ألا انجلي بفجر مجيد
وأخبر الظلم بأن للمظلوم يوما، ستشرق فيه الشمس من جديد
إن العين لتدمع والقلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، إنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم انقلهما من ضيق القبور إلى سعة الدور والقصور. اللهم اجعل قبريهما روضة من رياض الجنة، ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
حامد الحوري
العدد 805 - الخميس 18 نوفمبر 2004م الموافق 05 شوال 1425هـ