موكب العزاء الحسيني جزء لا يتجزأ من تاريخ هذا البلد العريق، ولا يمكن تناول هذا التاريخ من دون الوقوف أمامه. على المستوى التاريخي يرجع البعض الموكب إلى موكب أيتام الأسرة النبوية العائد من كربلاء. والبعض يعيده إلى موكب التوابين الخارجين بسيوفهم للتكفير عن جريمة تخليهم عن الحسين في ثورته. وهناك طروحات أخرى، تعيده إلى عصور أخرى: أيام الفاطميين في مصر أو البويهيين في العراق، أوالصفويين في ايران. وفي هذه المحطة يهمنا التوقف أمام الموكب في البحرين تحديدا، لنتعرف على تأثره وتأثيره المباشر في السياسة، وأهم محطاته البارزة في العصر الحديث،
من الناحية "الفنية" كان موكب البحرين يقوم على ترديد الحلقة الأولى الكلمات، فتجيبها الحلقة الأخرى، كما هو حتى الآن في مأتم الاحسائيين. التطور التالي حدث بأن أخذت الحلقات تكبر وتتداخل في بعضها كالدوائر، حتى كانت تبلغ أحيانا أربع حلقات متراكبة، تراوح بين الوقوف والتحرك بين فترة وأخرى.
وكان ما يميز طريقة موكب البحرين ان العبء الأكبر يعتمد على عاتق الرادود، بسبب حركة الموكب، وبالتالي يصعب على المعزين الترديد، فيتحمل الرادود الجهد الكبير، فيصدح بقصيدة كاملة طويلة ولا يردد المعزون غير مقطع قصير.
الثورة في إيران أثرت على حركة العزاء في البحرين، إذ حدثت نقلة نوعية كبيرة في الوعي العام فأخذت هذه الحركة طابعا ثوريا. وكان من جراء تطور الوضع السياسي خروج موكب الشهيد في العام ،1980 مما حول الموكب إلى "مسيرة" طويلة ينتظم فيها الآلاف، ومع ذلك لم يتأثر الموكب البحريني بنظيره الإيراني من حيث المضمون بسبب الفاصل اللغوي. ونظرا إلى التشديد الأمني والملاحقات كان الموكب يخرج من الشارع من دون ارتباط بأي مأتم، كما كان الرادود يتعرض في تلك الأيام للملاحقة وخطر الاعتقال، فيقوم المعزون بعمل حلقة مغلقة حوله لحمايته والتمويه على شخصيته برفع عدد كثيف من الأعلام حوله.
وبسبب الوضع الأمني المتشنج لم يحتفظ أحد بصور لتلك الفترة، كما أن هناك عاملين سلبيين أسهما في ذلك، فشعبيا كانت هناك نظرة سلبية ومعارضة لتصوير المواكب آنذاك، وحكوميا كان هناك تجاهل تام من الإعلام الرسمي لهذه المواكب: إذاعة وتلفازا وصحفا أو مجلات.
دور الموكب في العصر الحديث
ونتيجة لارتباط الموكب في مسيرته الطويلة بالواقع والاجتماعي والسياسي في الأعوام الخمسين أو الستين الأخيرة، نرى انعكاس ذلك على ما يتم ترديده من شعارات سياسية وطنية، سواء في فترة الاستعمار أو ما بعد فترة الاستقلال، وكانت الحركات السياسية تروج شعاراتها السياسية وتطرح رؤاها في مواكب العزاء، كونها الساحة الأكثر انفتاحا واتساعا وحضورا شعبيا. ولعل قراءة الشعارات توضح لنا المواقف حينها من التطورات السياسية من قبيل الموقف من المجلس الوطني السابق أو غيره من الأمور.
في العام 1978 تابع شعب البحرين تطورات الثورة الاسلامية التي بدأت نذرها تهب في إيران. وبعد انتصارها في فبراير/ شباط ،1979 استطاعت الثورة في إيران كسب تعاطف شعبي كبير في الشارع البحريني، فانعكس ذلك على إضفاء الطابع الاسلامي للحركة السياسية في البحرين، وهو ما نراه واضحا على شعارات الموكب الحسيني.
في العام التالي ،1980 شن العراق حربه المشبوهة على الجمهورية الناشئة، ما أزم الأوضاع الأمنية في المنطقة. ونتيجة لما تعرضت له من مؤامرات استعمارية وتحالف مضادا من قبل الكثير من الأنظمة العربية، صار الموكب المتنفس الوحيد والمباشر للتعبير عن رفض السياسات الرسمية، ومن هنا سيطرت على الموكب لغة احتجاجية عالية، في ظل سياسة إعلامية استفزازية للمشاعر العامة بدعمها المطلق للموقف العراقي. وفي تلك الأجواء المشحونة تعرضت حركة الموكب للتضييق، وتعرض الرواديد للملاحقة، حتى دخل الكثير منهم السجون.
بل يمكن القول إن جيلا جديدا من الرواديد الذين استضافتهم السجون حصل على فرصة ذهبية لتعميق وعيه السياسي وصقل أدواته الفنية، فخرجت من أعماق السجون ألحان جديدة أثرت الموكب في فترة الثمانينات وبداية التسعينات.
وبما أن الموكب ما هو إلا مرآة حيوية وشفافة ينعكس عليها الوضع السياسي تلقائيا، فإن الحركة المطلبية التي برزت في منتصف التسعينات، ألقت بظلالها على الشعارات، لتتعرض حركة الموكب من جديد إلى تضييق جديد، وبالتالي ليدخل جيل آخر من الرواديد والشعراء المعتقلات، وليخرجوا بوعي أكثر عمقا، وتجربة شعرية أكثر تنوعا، وألحان إضافية تغني مسيرة الموكب الحسيني
العدد 890 - الجمعة 11 فبراير 2005م الموافق 02 محرم 1426هـ