العدد 2435 - الأربعاء 06 مايو 2009م الموافق 11 جمادى الأولى 1430هـ

عنق الزجاجة... الهجرات وتقلص المجتمع البحريني القديم(2)

لاحظنا في المدة السابقة كيف لعبت مجموعة أحداث في تقليص أعداد سكان البحرين قديما لأقل ما يمكن، ولكن بدأت تلك الأعداد البسيطة في التحول لتكوين كتلة سكانية واحدة متجانسة حيث قل التنوع الجيني. بعد ثبات هذه المجموعة مدة من الزمن عادت لتنقسم على نفسها مكونة مجموعات جديدة وذلك حين بدأت الظروف البيئية والاقتصادية تتغير. وكل مجموعة من تلك المجموعات أصبحت نواة لتكوين جماعة جديدة.

في الفترة الواقعة بين الاعوام 700 إلى 400 قبل الميلاد، عاد اسم دلمون للظهور مرة أخرى ومن المرجح أن دلمون في هذه الفترة هي جزيرة البحرين، وورد في النقوشات التي عُثر عليها في حضارة بين النهرين أن دلمون في هذه المدة قد خضعت لدولة بابل الجديدة، وجاء ذكر حادثة إخضاع أوبيري ملك دلمون الذي قام بإرسال هدايا عديدة لسارجون الثالث خوفا من جبروته وعظمته. وقد حدث توسع بسيط في هذه المدة، نستنتج ذلك من بناء مدينة دلمون الرابعة في موقع القلعة. إلا أنه بالرغم من ذلك، لم تعد جزيرة البحرين في هذه الفترة ملتقى الطرق الدولية العظيمة كما كانت في العصور السابقة، وهكذا بقيت خلال القرن الثامن قبل الميلاد.

وقد ورث حضارة دلمون الأخمينيون الذين قدموا من فارس بعدما غزوا بابل. وفي ظل التأثير الأخميني ربما فقدت دلمون استقلالها السياسي غير أنها ظلت مزدهرة اقتصاديا كما يستشف من الطبقات الأثرية التي تعود لهذه الفترة، فقد تم ترميم المسكن الهائل في المدينة الرابعة وتوسعته.

ويعتقد أنه حدث توسع في الاستيطان في نهاية هذه المدة وأن جماعات سكانية انتقلت للعيش في جزيرة البحرين، ولا يبدو من المعطيات أن هناك مشكلات بين الجماعات السكانية القديمة. ويمكننا التكهن بالتوسع الذي حصل في جزيرة البحرين من وصف قادة الإسكندر في السنوات اللاحقة لهذه المدة.


الفترة 400 - 300 قبل الميلاد

المراجع التي تتحدث عن جزيرة البحرين في هذه الحقبة مستمدة من قادة الإسكندر عندما تهيأ لهم اكتشاف البحرين. فقد قام الإسكندر بإرسال ثلاث بعثات استكشافية في ربيع عام 323 حصل من خلالها على أخبار، جمعها مباشرة أمراء بحره أرخياس Archias، وأنذروسثينس Androsthenes، وهييرون Heeron، وهم قواد حملاته الثلاث للدوران حول جزيرة العرب. وقد كانت البعثة الأولى بقيادة القائد البحري أرخياس الذي سار بحذاء الساحل الغربي للخليج العربي حتى بلغ جزيرة تايلوس، وبحسب أريان Arrian وصل استطلاع أرخياس إلى تايلوس فقط. يقول أريان إٍن الإسكندر أُخْبِرَ «جزئيا بلسان أرخياس» عن « جزيرة قيل إِنها تبعد عن مصب الفرات نحو مسيرة نهار ويوم في مركب يسير في اتجاه الريح، وتسمى تايلوس، وهي كبيرة، وليست وعرة، ولا مكسوة بالأشجار في معظمها، بل هي من النوع الذي يحوي بساتين فاكهة وجميع الأشياء في مواسمها» .

وقاد أنذروسثينس التاسسي Androthenes of thaos الرحلة الثانية، ويقال إنه دار جزئيا حول شبه جزيرة العرب وزار تيلوس وأرادوس. وقد أعدّ طوافا بحريا عنونه «رحلة بحرية على طول ساحل بحر الهند». وكان هذا الكتاب بالتأكيد أهم مصدر مباشر وحيد عن تايلوس في العصور القديمة، ولا وجود له الآن، لكنه قُرِئَ على نطاق واسع، واستشهد به، واقتبس منه كُتَاب من أمثال ثيوفراستوس Theophrastus، وأيراتوثسينس Eratosthenes، وأرتيميدروس Artemidorus، وبليني Pliny، واثيناوس Athenaeus. وعليه سنعرض ما تم أقتباسه عن أنذروسثينس عن تايلوس من قبل الكتاب اللاحقين.

ولعلّ الفيلسوف ثيوفراستس (372 ق.م - 287 ق.م) تفوّق على غيره، واهتم اهتماما علميا عظيما إٍلى الحدّ الأقصى بملاحظات أنذروسثينس. وينبغي أن يشكر لأنه خلف لنا الأجزاء الثمينة من «طواف البر والبحر» الذي تناول تاريخ تايلوس الطبيعي. فلنبدأ باقتباس ثلاثة مقاطع متعلقة بالموضوع من كتابي ثيوفراستس: تاريخ النباتات Historia Piantarum، وأسباب النباتات De Cansis Plantarum.

تقع جزيرة تايلوس في الخليج العربي، ويقال إن جهتها مكسوة بالكثير من الأشجار التي تشكّل لها سياجا حقيقيا، عندما يحصل المدّ، ويبلغ حجم الواحدة منها حجم شجرة التين، وأريج زهرها فوّاح إٍلى أقصى حدّ، وثمارها لاتصلح للأكل، تشبه الترمس. ويقولون إٍن شجرا «يحمل الصوف» (نبات القطن) ينمو بكثرة في هذه الجزيرة أيضا، وله ورق يشبه ورق الكرمة، لكنه صغير وليس له ثمر، إٍلا أن الوعاء (الجوزة) الحاوي «الصوف»، يحاكي حجمه حجم تفاح الربيع، ومغلق، ومتى نضج، ويخرج منه الصوف الذي يحيكون منه أقمشة لهم، بعضها رخيص، وبعضها ثمنه مرتفع جدا.

ويُرْوَى أن هذه الشجرة يعثر عليها أيضا في الهند وفي جزيرة العرب. ويقولون إٍن فيها أشجارا أخرى، زهورها مثل زهور القرنفل، لكن لا رائحة لها، وحجمها أربعة أمثال حجم زهرة القرنفل، وإٍن فيها شجرة أخرى لها العديد من الأوراق كالوردة، تنغلق في الليل، وتنفتح كليا عند شروق الشمس، ويكتمل تفتحها ظهرا، ثم تنغلق تدريجيا في السماء، وتبقى مغلقة طيلة الليل، ويقول أهل الجزيرة إٍنها تنام. وفي الجزيرة أيضا أشجار نخيل تمر، وكرمة، وأشجار مثمرة أخرى، تتضمن شجر التين الدائم الخضرة. وتهطل فيها أمطار من السماء، ليستخدمونها في سقاية بساتين الأشجار المثمرة. لكن تحتوي الجزيرة العديد من العيون، يسقون بها كل شيء، وتفيد الذرة الصفراء والأشجار. حتى لو أمطرت، يعوّمون الحقول بمياه الينابيع، كما لو أنهم يغسلون مياه المطر (تاريخ النبات، 4/7/8-7)

ويقولون إٍن في جزيرة تايلوس، مقابل الساحل العربي، نوعا من الخشب يبنون به سفنهم، وإٍن هذا الخشب يكاد لايتعفن في ماء البحر. ويدوم أكثر من مئتي عام، إٍذا بقي في الماء، بينما يتفسحَ في الوقت أبكر إٍذا ظل خارج الماء، ولو كان خلال مدة قصيرة. ويروون أيضا قصة غريبة أخرى، وإٍن كانت لاتتعلق بقضية التعفَن، فيقولون إٍن عندهم نوعا من الشجر يقطعون منه هراواتهم، وهذه الهراوات جميلة جدا، لها مظهر مرقَش مثل جلد النمر. و هذا الخشب ثقيل إٍلى أقصى حد، ومع ذلك ينكسر إٍلى شظايا كالفخار الذي يلقى على أرض صلبة.

إٍضافة إٍلى ذلك، ليس خشب الطرفاء ضعيفا هنا، كما هو في بلادنا، لكنه قوي مثل بلوط - القرمزية، أو أي خشب صلب آخر ( تاريخ النبات 5/4/7-8) وإٍذا صحَ تقرير أنذروسثينس عن مياه جزيرة تايلوس في البحر الأحمر(الأريثري) - أي إٍنُ مياه عيونها، رغم ملوحتها، أفضل من المطر، ليس فقط من أجل الأشجار، بل من أجل جمع المحاصيل الأخرى، وهذا مايفسَر تنظيف الأهالي ماء المطر بماء العين بعد سقوطه - يحتمل أن يعتبر التعودّ سبب تحوّل العادة إلى طبيعة. وهكذا يقلّ المطر هنا حتى إٍن الأشجار والحبوب وما تبقى، تزرع على مياه العيون (ويسبب بذرها في جميع الفصول)، ولابدّ من أخذ هذا التعليل على أساس الافتراض بأن التقرير صحيح ( أسباب النبات، 2/5/5).

وقبل أن ننهي كلامنا عن ثيوفراستس، يحسن بنا أن نذكر عملا آخر له يسمى « حول الحجارة» De Lapidibus ففيه فقرة قصيرة خاصة باللؤلؤ:

ما يسمّى «باللؤلؤ»، الشفّاف بطبيعته، والمستعمل في العقود الغالية الثمن، يصنّف أيضا بين الحجارة الكريمة. ويتكوّن ضمن صدفة تشبه الوريقة، بل هو أصغر منها. وتبلغ أبعاد اللؤلؤ أبعاد عين سمكة كبيرة الحجم. وينتج مقابل بعض جزر البحر الأحمر (الارثري).

ويتفق معظم المعلّقين على أن «بعض جزر البحر الأحمر (الأرثري)» تشير إٍلى البحرين.

العدد 2435 - الأربعاء 06 مايو 2009م الموافق 11 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً