العدد 2435 - الأربعاء 06 مايو 2009م الموافق 11 جمادى الأولى 1430هـ

باديس تدشِّن كتابيها وصمود يروي حكاية بلاغة الندرة

بالملتقى الأهلي الثقافي

قدم الباحث في علم البلاغة وتحليل الخطاب الأكاديمي التونسي حمادي صمود قراءة بلاغة الإيجاز والإطناب، وذلك على هامش الأمسية التي خصصها الملتقى الأهلي الثقافي لتدشين كتابي بلاغة الوفرة وبلاغة الندرة، وكتاب دراسات في الخطاب للباحثة الأكاديمية التونسية نور الهدى باديس.

في البداية أشار صمود إلى موقعية مفهوم الإيجاز والإطناب كمبحث بلاغي، إذ به يُنهي علم المعاني ويُفتح علم البيان، وأن الباحثة اتخذت عنوانا فيه مزاوجة بين البحث البلاغي وبين عبارات تجري في المصطلح الاقتصادي « بلاغة الوفرة والندرة»، باعتبار أن الإطناب في الظاهر يشير إلى بلاغة الوفرة، لأن الإطناب تكثير للفظ، في حين أن الإيجاز تقليل في اللفظ، وهو ندرة في مستوى اللفظ وكثرة في مستوى المعنى.

وبين صمودي أن هذا الكتاب بنته الباحثة على تتبع النصوص المؤسسة لمبحث الإطناب والإيجاز، إلى فترة ما يسمى بشروح التلخيص، وانطلقت من نص الرماني في كتاب النكت في إعجاز القرآن عندما حاول أن يستعرض الوجوه التي يأتي منها الإعجاز في القرآن، ومن بين الوجوه التي درسها مبحث الإيجاز وهو مبحث عجيب، في ذلك الزمن المتقدم نسبيا من تاريخ البلاغة العربية، وقد قرأت في هذا النص القوانين أو الفرضيات التي تؤسس للمبحث والمبادئ الكبرى التي ينبني والتصنيفية التي يقترحها الرماني في المبحث والمآزق النظرية، ومنظومة الشواهد.

وأكد على أن باديس لا تدرس النص في ظاهره، وإنما تدرس القوانين المسيرة في المبحث، إذن هو بحث في ما ليس معطى في ظاهر النص، وإنما ما يقوم من ظاهر النص مقام المرتكز الذي يمكن أن نبني عليه، ثم نظرت الباحثة في الفترات الموالية إلى فترة شروح التلخيص.

وحدد صمودي منهج الكتاب فأشار إلى أنه الكتاب يندرج في محاولة لإعادة قراءة هذه الأبواب البلاغية بالنظر في معطيات تحليل الخطاب، ومعنى هذا أننا عندما نأخذ مبحثا كالإيجاز والإطناب، نلاحظ أن البلاغيين قدموا مقررات مهمة ونظموا أقسامهم، وضبطوا شواهدهم بصفة تبدو لنا وكأنها نهائية، أو كأنها قول فصل، في حين أن الباحثة نور الهدى وهي تنصت إلى القوانين الموجودة في عمق الخطاب ترى أن المبحث في حد ذاته لا معنى له إن لم نصعد مرتبة أخرى للبحث عن القوانين الناظمة للمبحث داخل المباحث الأخرى، فتبين لها أن المباحث البلاغية برمتها لا يمكن أن تُأخذ كما هي إن لم ننظر إلى القوانين المحيطة التي تؤطرها فمثلا جرى أن البلاغة عند العرب هي الإيجاز، وأن البليغ المصقع الذي يبني خطابه المؤثر بين الناس ويحملهم على ما يريد من الآراء سواء في السياسة أو في الدين أو في الأدب أو غيره، هو الخطيب القادر على أن يوجز العبارة بحيث يفتح البنية على متعدد المعاني، فيذهب كل واحد في التأويل مذهبه، وهذه الأمور تعرفونها في ما يسمى الخطبة كجنس أدبي، وتعرفون أن الخطبة تقوم على ما لا يقوله الخطيب أكثر ما تقوم على ما يقول، والخطيب البارع هو الخطيب الذي يفتح بنية النص على إمكان القراءة، وعلى توهم القارئ، إذن اشتهر لدينا أن الإيجاز بلاغة والإطناب عادة هو تطويل والبلاغيون العرب القدماء وعلى رأسهم ابن الأثير يرى أن الإنسان إذا أطنب كما لو أنه إذا أراد أن يذهب لمكان ما فعوضا أن يأخذ الطريق القصير يأخذ طريقا فيها بساتين وفيها رياحين، فيصل إلى مبتغاه وقد التذت نفسه بما رأى من مشاهد بديعة، وهذا كلام له معناه، ولكن الباحثة بينت عنده أن الإيجاز والإطناب ليسا قيمتين مطلقتين لا إيجابا ولا سلبا، وإنما هناك قوانين أخرى تصيّر الخطاب وتجعل الإيجاز والإطناب بمثابة بنية اللغة المجردة، وإنجاز اللغة في الاستعمال يعني كأن الحديث النظري عن الإيجاز والإطناب في المدونات البلاغية وفي الأبواب شيء ليس مطلقا، وإنما هو نسبي تتحكم فيه قوانين أخرى.

وأضاف صمود إن أهم ما في الخطاب مثلا قانون المناسبة، وهذا القانون تعبر عنه عبارة عربية مهمة «الإيجاز في مواضع الإطناب عي، كما أن الإطناب في مواضع الإيجاز عي»، إذن هناك قانون فوق الإيجاز والإطناب هو قانون الذي ينسّب هذه القيم ويخرجها من إطلاقها ويجعلها كالبنية والنظام اللغوي المجرد وإنجاز ذلك النظام في الخطاب، وهذا الأمر أظن أن الباحثة ما كانت لتصل إليه لولا انتقالها من المباحث البلاغية إلى تقنية ما كان يسميه اليونانيون التقنية البلاغية إلى الغطاء إلى اللغة عندما تدخل في متطلبات في ظروف تتعلق بها مقاصد يتعلق بها متكلمون ومخاطبون إلى غير ذلك. وأشار صمود إلى أن من أهم ما توصلت إليه باديس هو أن الخطاب تتحكم فيه قوانين قد تُعكس بحسب المقامات، وبحسب المناسبات وهذه النتيجة من النتائج المهمة بل هي روح المدرسة التونسية مع كثير من التواضع.

وأضاف صمودي مواصلا حكايته مع باديس ومبحثي الإيجاز والإطناب بأن الباحثة عندما كتبت أطروحتها تبين لها أن الإيجاز صيغة تناسب أكثر من غيرها الشفوي، فربطت بين إيجاز العبارة وبين الشفوي، باعتبار أن الشفوي هو مقام مواجهة، وهو مقام حضرة، حيث المتكلم والسامع حاضران، في إطار معين، إذن هو ما يسمى بميتافيزيقا الحضور، وليس هناك غياب، واللعبة اللغوية كلها مكشوفة، فثمة متكلم يتكلم، وسامع يسمع، ولغة تربط بينهما وإشارات تعبر عن تلك اللغة في المنطلق عند المتكلم وفي المنتهى عند السامع، ولذلك ترى الواحد منا وهو ينظر إلى الجمهور أحيانا يغير مما يقول لأنه يلاحظ على قسمات الناس فيحول خطابه بحسب رد الفعل، إذن بما أنه مقام حضرة فالسامع لا يستطيع أن يوقف دفق الكلام الآتي من المتكلم وأن عليه أن يفهم من ظاهر اللفظ ما يقال له وإلا ضاع الكلام وبحسب نزار قباني « إن الحروف تموت حين تقال» إذن اللغة تموت، ولذلك فالواحد منا وهو يستمع إلى خطبة إذا ذهبت جملة أو جملتان فإنه قد يضيع كل ما يأتي بعدهما لأنه لم يعد يفهم لأن الأمور انصرمت، ولذلك فإن الإيجاز هو أقرب الطرق وأنسبها للشفوي.

واستدرك صمودي ولكن بعد سنوات عديدة من الأطروحة وهذا من المحاسن إذا بالباحثة تحدثني أنها قرأت نصوصا أخرى فوجدت أن الإيجاز ليس أنسب للشفوي بل إن الإيجاز بما أنه يقوم على تناقض أو على قلة اللفظ وقلة المعنى هو شيء يطلب من المستمع الاستدلال على المعاني الخفية في النص وعملية الاستدلال عملية تفكير وعملية عقلية ولا يمكن أن تتم هكذا بمجرد السماع وبدأت توسع القضية وانتهت في الأخير إلى تعديل شيء مما سبق أن قالته في الأطروحة وهذا يحسب لها لأن الإنسان وهو يبحث يعدل دائما ما يقول بحكم الاطلاع على نصوص أخرى وتقدمه في الخبرة وتوسعه في بعض الأمور، إذن فقد عدلت ما وصلت إليه وكانت هذه حكاية الكتاب الأول.

أما الكتاب الثاني دراسات في علم البلاغة فقد قصت باديس حكايته في تقديمه فأشارت إلى أنه مجموعة من الفصول كتبتها في أزمنة متباعدة. وما شجعها على أن إدراجها في كتاب هو انتماؤها إلى مشغل فكري واحد ومنهج مشترك. فهي محاولات لقراءة نصوص من حقب مختلفة وأنواع أدبية متباينة.

ومما أكد على أهمية القراءة عند باديس إيمانها بأن النص الأدبي أو الفكري، مهما كان كاتبه ومهما كان العصر الذي ينتمي إليه، لا يحييه ولا يذكي المعنى فيه إلا فعل القراءة.

وأحالت باديس على نشأتها الجامعية قائلة «لقد حملتنا المشاغل البلاغية في الجامعة التي ننتمي وفي اختصاصنا الضيق الذي أنجزنا فيه أهم أعمالنا، بصفة تكاد تكون طبيعية، إلى ما يُسمى اليوم بتحليل الخطاب وما نشره هذا الاختصاص بين الناس من مفاهيم وآليات سبر وتعمق، مكنت الباحثين والقراءة من الوصول إلى طبقات المعاني المخزونة في النصوص الأدبية أو الفكرية المهمة».

وعن النصوص التي حللتها في دراستها أشارت باديس إلى أنها قد جربت مكتسبات تحليل الخطاب على أربعة نصوص تنتمي إلى رمز من المخاطبات مختلفة. فكان النص الأول دراسة في خطاب السجال والمفاضلة، وتابعت « قد مكننا هذا الاعتبار من إعادة بناء نص الجاحظ المشهور في مقدمة كتاب «الحيوان»، ووفقنا في ما نعتقد إلى الخيط الرابط بين مكوناته التي تبدو لأول وهلة مبعثرة منقطعة لا يجمع بينها إلا اندراجها ضمن الكتاب».

وقد بينت باديس أن اعتبار النص سجالا سمح لها أن تقف فيه على مناهج الأدلة وصنوف الاحتجاج في هذه الفترة المبكرة التي كتب فيها الجاحظ نصه. وكذلك النص الثاني الذي اعتبرته نصا مندرجا ضمن خطاب الغيرية والسعي إلى اكتشاف الآخر. ثم إلى شيء لا يخلو من جدة، وهو اندراج خطابات يمكن أن تستقل بالدرس في خطاب أوسع وأشمل تحلّ منه محل المكون.

ومن خطاب السجال والغيرية انتقلت باديس إلى خطاب العقيدة أو الخطاب الذي ينتمي إلى دائرة تحاول أن تركز العقيدة والإيمان على معطيات «استدلالية علمية». فاختارت خطاب الإعجاز موضوعا لتحليلها. ومن خطاب الإعجاز في مؤلفاته الشهيرة اختارت دور المتلقي في بناء الإعجاز على الحجة والدليل. وانتهت إلى أن الدارسين منذ وقت مبكر، انتبهوا إلى أن صيرورة الخطاب الذي بنوه وتأثيره في المخاطبين، وإقناعه لهم لا تتم إلا بمتلق تتوفر فيه جملة من الصفات وقفت عليها بشيء من التفصيل، وأشارت إلى أن حديثها عن المتلقي في هذا النوع من المخاطبات يعد منسجما مع ما وصلت إليه دراسات التلقي منذ عشرين عاما أو ما يزيد.

أما البحث الرابع فهو دائر على ما يُسمى بالخطاب النسوي أو الأدب النسوي. واختارت باديس نموذجا للدراسة هو رواية الجزائرية لأحلام مستغانمي «فوضى الحواس» مجالا للدرس والتجريب، فذلك موضوع محدد دقيق من المواضيع التي تشترك في درسها اختصاصات كثيرة كالفلسفة وعلم الاجتماع وعلوم القانون... وهو موضوع العنف، ومنه العنف الذي تشرّبه الإنسان من محيطه ووضعه في سياقه التاريخي ولغته والأخيلة التي تعمر تلك اللغة؛ فيتحول إلى عنف مستبطن مقبول يكاد لا يعيه أحد إلا الذي يفكك تلك النصوص ويبحث عن المضمر المندس فيها الذي يوجهها من غير أن ينتبه إليه أحد، وهو درجة من العنف متطورة أرادت الباحثة أن تكشف النقاب عنها، مساهمة في علاج المجتمع والعلاقات بما يعتقد أنه أليف محايد.

العدد 2435 - الأربعاء 06 مايو 2009م الموافق 11 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً