العدد 2435 - الأربعاء 06 مايو 2009م الموافق 11 جمادى الأولى 1430هـ

الجريمة التي حطمت حياة أربعة وشغلت المخر ج نصف قرن من قتل الزير تايلور، ماري مايلز أو شارلوت؟

جرائم في مصنع الأحلام

في هذه الحكاية قد لا يكون أهم ما فيها سوى ذلك العناد الذي به تابع المخرج كينغ فيدور الجريمة التي شغلته، نصف قرن، حتى وصل إلى الحقيقة. والحقيقة بدت له مختلفة عن كل التوقعات. بدت له، من أن تساعده على فضح هوليوود وموبقاتها، وأكبر من أن يسكت عنها، فدونها لتعرف بعد رحيله... ولكن أيضا بعد أن فات الأوان.

في النصف الثاني من الستينيات كان كينغ فيدور أخلد إلى الهدوء والدعة معتزلا الناس، بعدما قرر أن صحته لم تعد قادرة على إسعافه لتحقيق فيلم جديد. كان فيدور واحدا من كبار صانعي سينما هوليوود، منذ أيام السينما الصامتة. كان من الحضور والدأب على العمل منذ شبابة المبكر بحيث من الصعب وضع لائحة كاملة بالأفلام التي حققها والتي كانت تحقق نجاحا كبيرا، وكان من السلطة بحيث إنه حين وقّع عقدا لإخراج «ذهب مع الريح» انسحب بعظمة، ما إن بدأ المنتج سلزينك يفرض نفسه بكونه هو المسئول الأول عن تحقيق الفليم. وأفلام كينغ فيدور كانت دائما على النمط الهيوليوودي، أفلام مغامرات، أفلاما كوميدية، أفلام حرب وأفلاما تاريخية، مع اطلاقة بوليسية بين الحين والآخر. وهو أواسط الستينيات كان أنجز عشرات الأفلام وحتى أذا كان لم يفز بالأوسكار (كأفضل مخرج) عن أي من أفلامه، كان اسمه يطرح في كل مرة يحقق فيها فيلما بوصفه المرشح الأوفر حظا.

وفي النهاية أعطى جائزة أوسكار فخرية، قبل وفاته العام 1982، بأربع سنوات.

فإذا كان كينغ فيدور قد عاش كل هذا المجد، واعتبر تاريخه صنوا لتاريخ هوليوود... ما الذي دفعه في العام 1967، إلى محاولة - أولى في تاريخه - تقوم على تحقيق فيلم عن هوليوود نفسها. فيلم كان من شأنه لو تحقق أن يكشف جانبا من حياة عاصمة السينما الخفية وبفضح علاقات فيها، كانت موضع كتمان على الدوام، من قبل غلاوة الهوليوودين على الأقل؟ هل كان ذلك حبا في قول الحقيقة؟ أو رغبة في الانتقام من هوليوود التي كان كينغ فيدور، كما يبدو، يرى أنها لم تعطه كما أعطاها؟

مهما يكن من الأمر، فإن كينغ فيدور لم يحقق فيلمه. بل ظل مشروعه أشبه بحديقته السرية. وفقط بعد رحيله اكتشف بين أوراقه التي جمعها كاتب سيرته، مجموعة أوراق أهم ما فيها أنها تكشف سرا كانت هوليوود سكتت عنه، في ما يشبه مؤامرة الصمت الجماعية، طوال ما يقارب النصف قرن.

وهذا السر يتعلق، من ناحية يمقتل واحد من أنجح مخرجي هوليوود وممثليها أيام السينما الصامتة.

وبالقضاء فور ذلك على المسار العملي لنجمتين كانتا تشعان في سماء هوليوود. القتيل كان ويليام دزموند تايلور. أما النجمتان فكانتا مابيل نورماند وماري مايلز منتر. تايلور رحل عن عالمنا في العام 1922. ويبدو أن حكاية رحيله ظلت تشغل بال كينغ فيدور الذي كان وقتها في السادسة والعشرين من عمره، طوال حياته. كان مفتونا بالحكاية من أولها إلى آخرها، إذا، إلى جرجة أنه أراد في العام 1967 أن يحولها إلى حكاية فيلم يختتم بها حياته السينمائية لكنه لم يفعل. وفي المقابل جمع في أوراقه مجمل التحقيقات التي قام بها. وكانت المفاجأة أن تلك التحقيقات كشفت ما كان غامضا عن حادثة أقضت مضاجع هوليوود طويلا، لأنها كانت تعرف - ولكن لا تريد أن تعترف - بأن رحيل تايلور لم يكن لا انتحارا ولا صدفة. بل كان بفعل جريمة قتل. والجديد الجديد في ما حققه كينغ فيدور هو أنه كشف حقيقة تلك الجريمة، وكانت المفاجأة مخيفة... كان من شأن تلك المفاجأة أن تدفع هوليوود إلى إعادة الاعتبار للنجمتين اللتين حطم الحادث حياتهما. ولكن الأوان كان قد فات... كانت 45 سنة قد مرت على ما حدث.

ولكن ما الذي حدث حقا، وجعل كينغ فيدور مشغول البال طوال تلك السنوات؟

تبدأ الحكاية مع ويليام دزموند تايلور نفسه. ومع لحظة مقتله.

ففي الأول من شباط (فبراير) 1922 عثر أصدقاء لتايلور على جثته مضرجة بالدماء في الكوخ الأنيق الذي كان يعيش فيه في شارع آلفارادو ستريت (لوس انجلس). كان تايلور يومها في الرابعة والخمسين من عمره، وكان معروفا بنشاطه السينمائي الكبير أيام السينما الصامتة، لكنه كان معروفا أيضا بمغامراته النسائية الصاخبة. وكان معروفا - أكثر - بكونه مكتشف الممثلات، يكتشفن صبايا أول ما فعلوه، قبل استدعاء الشرطة، هو جمع أوراقه وأخفاها. لم يكن أي منهم راغبا في أن تثور فضيحة بشأن ما حدث، وهكذا أتت الشرطة لتجد تايلور مقتولا برصاصتين من عيار 38. وإذ جمعت التقاليد الهوليودية التي كانت سارية في ذلك الحين.

ومع هذا عرفت الشرطة وقائع الأحداث في تفاصيلها. زائرون متعاقبون في مساء ذلك اليوم، عرف أن ما بيل نورماند، التي كانت صديقة لتايلور، زارته «لكي أستعير منه بعض الكتب» كما قالت في إفادتها، فوجدته يستعد لتناول العشاء الذي كان حضره له، قبل ذهابه، طباخه. دعاها تايلور إلى مشاركته العشاء فأبت كما قالت، ثم بارحت المكان قبل حلول الثامنة مساء. وهو ما تمكنت من تأكيده بشكل لا يدع مجالا لأي شك... كما قال أصدقاؤها، من دون أن توافقهم الصحافة على ذلك.

وفي الساعة الثامنة والربع، سمع الجيران صوتا آتيا من بيت تايلور خيل إليهم أول الأمر أنه صوت طراد سيارة فلم يأبهوا... لكنهم سرعان ما لفت نظرهم شخص، خيل إليهم أنه رجل، يركض خارجا من بيت تايلور. دقائق بعد ذلك أتت جارة تايلور الممثلة ادنا بورفيانس لتقرع على باب كوحه فلم تحر جوابا. ستقول لاحقا، في إفادتها، إن ذلك لم يقلقها على رغم سماعها صوت الموسيقى آتيا من الداخل وعلى رغم الأضواء المشعة. فتايلور، كما قالت، «اعتاد ألا يفتح الباب أن كان عنده سيدة». وادنا قالت إنها اعتقدت بأن لديه سيدة.

سيدة أو رجل؟ لا يهم، طالما أن التحقيق سوف يقفل... لكنه لن يقفل قبل أن تؤدي عملية تفتيش دقيقة إلى العثور على نحو خمسين رسالة مشبوبة العاطفة، بعضها يهدد الممثل - المخرج، بالقتل، دلالا.

والرسائل كانت كلها تحمل الحروف الأولى من اسم تلك التي يفترض أنها كاتبتها م.م.م. (ماري مايلز منتر). قامت الشرطة طبعا باستجواب ماري، فأنكرت أية علاقة لها بالقتل، حتى وإن أقرت بأنها هي كاتبة الرسائل، واعترفت بأنها على علاقة بتايلور.

أمام تأكيد النجمتين مابيل وماري أنهما كانتا في مكان آخر، وتمكنهما من جمع شهادات تؤكد ذلك، وأما ما أكده جيران من أن من خرج من كوخ تايلور، كان رجلا لا امرأة... وأمام الأعراف الهوليوودية المعمول بها، لم يكن أمام الشرطة، إذا، إلا أن تقييد الجريمة ضد مجهول وتكلف التحريين بالبحث عنه، فيما أطلق سراح النجمتين، بعد ساعات من التحقيق مع كل منهما.

أكدت الشرطة براءة ما بيل وماري. لكن الصحافة لم ترض بذلك، كعادتها دائما حين تتعامل مع فضائح النجوم، بل راحت تنهش في مسعتهما، وتختلق الروايات والفضائح وتتفنن في ذلك، حتى كانت النتيجة ذلك الدمار الذي أصاب كلا منهما. مابيل عملت سنتين بعد ذلك، ولمن دون اي مجد، بل راح المنتجون والمخرجون ينفضون عنها، بعدما كانت واحدة من أشهر النجمات العاملات مع ماك سينيث وشارلي شابن. بل كانت هي من ساعد ماك سينيث على إنشاء وإنجاح شركة كيستون التي شهدت بدايات شابن الناجحة. غير أن الصحافة نسيت كل هذا، وتذكرت فقط أن ما بيل، على أية حال، كانت ذات حياة صاخبة، مليئة بالشراب والمخدرات والعلاقات المشبوهة، وأنها قبل ذلك بعام تورطت - دون إرادتها - في فضيحة دارت حول موت ممثلة ثانوية، بسبب إفراطها في تناول المخدرات، خلال حفلة أقامتها وذات حياة «فاسقة»، واستنادا إلى كونها آخر من رأى تايلور على قيد الحياة بشهادتها، لم تفوت الصحافة الفرصة. ولكن لئن كان ذلك لم يقض تماما على ما بيل في ذلك الحين، فإن حادثة تالية قتل فيها سائقها مليارديرا كان يريد مغازلتها، ما أسفر عن افتضاح علاقتها بالسائق، أنهت حياتها المهنية تماما. وهي حين ماتت في العام 1930، ركزت الصحافة على فضائح حياتها بدلا من أن تتحدث عنها كممثلة متميزة... وهو ما كانته حقا.


شبهة ما...

ماري مايلز منتر، كانت بدورها ممثلة معروفة ولعبت في أفلام عديدة، حتى وإن لم تصل إلى شهرة ما بيل. وهي لئن كانت واعدة حقا، حين حصلت حادثة تايلور، فإن الحادثة والرسائل التي عثر عليها وإقرارها بعلاقتها بالقتيل، كان هذا كله كافيا للقضاء عليها مهنيا، إذ نراها تعتزل الفن وتعيش منطوية على نفسها، دون أن يأبه أحد بما فعلته بعد ذلك.

فإذا أضفنا إلى هذا أن طباخ تايلور، الذي كان آخر من شاهده على قيد الحياة، قبل مجيء ما بيل نورماندد لزيارته، أصيب فجأة بجنون أدى إلى وضعه في المستشفى ونسيه الناس، يمكننا أن نقول إن مقتل تايلور قد دمر حياة أربعة أشخاص على الأقل. ومع ذلك ظل لغزا محيرا.

ظل لسؤال: من الذي قتل تايلور حقا؟ ولماذا؟

يمكننا طبعا أن نقول هنا إن الشبهة ظلت لسنوات تحول حول الثلاثة معا: ما بيل نورماند، وماري مايلز منتر، والطباخ، الذي كان يمكن أن يكون هو الرجل الوحيد الذي بارح الكوخ كما روى الجيران.

غير أن أيا من هذه الفرضيات لم يكن من شأنه أن يرضي كينغ فيدور.

صحيح أنه طوال العقود التالية كان منهمكا في عمله وفي أفلامه الكبيرة التي حققها، مثل «الاستعراض الكبير» و«ممر الشمال الغربي» و«الحرب والسلام» و«ثمن المجد» و«صراع تحت الشمس» و«هللويا» وغيرها، لكنه كان على الدوام يحمل هاجس مقتل تايلور، الذي كان صديقا له. وكان فيدور واثقا، لسبب لن يعرفه أحد أبدا، من أن القاتل شخص غير هؤلاء الثلاثة.

والحقيقة أن تحقيقاته وتحرياته العديدة التي جمعها واشتغل عليها تقاعده، وكان يريد لها أن تمكنه من تحقيق فيلم عن الحادثة، يتناول من خلاله هوليوود، أوصلته إلى ما اعتبره الحقيقة النهائية.

وهذه الحقيقة نجدها اليوم ماثلة في كتاب عنوانه «جماعة من القتلة» وضعه سيدني كيركبارتريك، كاتب سيرة كينغ فيدور، والذي كان ساعده طوال سنوات على جمع المعلومات والشهادات. والحال أن في إمكاننا اليوم أن نفترض أن ما جاء في الكتاب، فيما يخص حادثة مقتل تايلور، يمكن اعتباره رواية لما حدث حقا، طالما أن أحدا لم يكذبه، على رغم أن العديد من الضالعين في الحكاية كانوا، في ذلك الحين، لا يزالوان على قيد الحياة بمن فيهم ماري مايلز منتر. فما الذي يرويه الكتاب؟

حسنا أنه يروي حكاية في غاية البساطة. حكاية غيرة وغيرام وانتقام لا أكثر.

ما يقوله الكتاب هو إن ماري كانت حقا مغرمة بتايلور، الذي كان أقام معها علاقة موهما إياها أنها هي الكبير. ماري كانت آذاك في العشرين من عمرها، وكانت منذ سنوات قد بدأت تخطو خطوات جدية وصاعدة نحو المجد، ولا سيما تحت رعاية تايلور. هذه الحكاية كانت معروفة، لكن الأمر الذي لم تكن ماري تعرفه، كان أن أمها أيضا، السيدة شارلوت شلبي، الت يكانت جربت حظها قبل ذلك وفشلت، كانت بدورها على علاقة مع تايلور. وحيم أقام هذا علاقته مع ماري، لم تجرؤ شالوت على مفاتحة ابنتها بالأمر، بل راحت تنصحها بالابتعاد عنه. لكن الفتاة كانت متيمة بالفنان الكهل فلم ترتدع، وهكذا قام صراع خفي، مليء بالغيرة والحقد بين شارلوت وماري، وذات مرة قصدت شارلوت تايلور وطلبت اليه أن يمتنع عن اللقاء بابنتها وإلا فإنها تقتله وتقتلها. لكن تايلور لم يأبه لهذا التهديد، فيما راحت شارلوت تطارد ابنتها، إلى درجة أنها مرات عديدة كانت تسجنها داخل غرفتها مقفلة عليها إياها بالمفتاح.

وليلة الأول من فبراير/ شباط 1922، كانت من تلك الليالي التي سجنت فيها شالوت ابنتها. لكن هذه الأخيرة تمكنت من الإفلات، وركضت إلى كوخ المخرج غير البعيد عن شقتها. وإذ أدركت ان ابنتها هربت وذهبت إلى لقاء تايلور، تبعتها وفي جيبها مسدس من عيار 38. وحين وصلت شالوت إلى طوخ دفعت الباب لتجد ماري في أحضان تايلور. فتناولت مسدسها من جيبها وأطلقت رصاصتين كانت تريد أن تردي بكل منهما واحدا من الاثنين، لكن الرصاصتين استقرتا في جسد تايلور، بينما تمكنت ماري من الفرار بعدما وجدت تايلور يتخبط في دمه، وأمها واقفة مذهولة لا تصدق أنها فعلت هذا.

والذي يفترضه كتاب كيركباتريك بعد ذلك، هو أن شارلوت ما إن وعت فعلتها، حتى سارعت بارتداء بعض ملابس تايلور الرياضية، إذ وجدت ثيابها مضرجة بدمه، وركضت خارجة من الكوخ بدورها لا تلوي على شيء. وهذا ما يفسر اجماع الجيران على أنهم شاهدوا «رجلا» يخرج راكضا.

ومن الواضح أن ماري التي شاهدت أمها تقترف الجريمة تسترت عليها. وفي المقابل تمكنت الأم من أن تؤكد للشرطة أن ابنتها كانت في بيتها لحظة ارتكاب الجريمة.

أما هوليوود فآثرت الصمت كالمعتاد وانتهى الأمر.

إلان، طبعا، بالنسبة إلى كينغ فيدور الذي ظل يهجس بما حدث حتى كشف ما اعتقد أنه الحقيقة. هو الذي كان يريد الحصول على ما يدين هوليوود. فهل في إمكاننا أن نقول إن عادية الجريمة، وكونها في النهاية من الأمور التي يمكن أن تحصل في اي بيت ومدينة، كانا ما ردع فيدور عن تحقيق فيلمه المرجو، هو الذي رأى أن ليس فيما حدث ما سيكون من شأنه أن يدين هوليوود نفسها؟

@ مأخوذ عن كتاب حكايات صيفية

العدد 2435 - الأربعاء 06 مايو 2009م الموافق 11 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً