العدد 3598 - الجمعة 13 يوليو 2012م الموافق 23 شعبان 1433هـ

مساحة حرة- ماذا يريد ذلك البؤبؤ الغامض (المركز الاول)

احمد مكي
احمد مكي

كان حلم عميد السوريالية أندريه بروتون (العيش في بيتٍ من زجاج) حيث كل شيء شفاف ومعروض للفرجة، لا خارج ولا داخل، الرغبة المطلقة في الكشف والانكشاف، وإذ يجعل بروتون الفكرة شاعرية، بل وتقترب من أن تكون أخلاقية. أتساءل، لماذا يرغب شخصٌ ما بمثل هذهِ الاستعراضية، ألا يشعر الإنسان الطبيعي برغبة في الخصوصية أو التقوقع داخل حلزونة لبعض الوقت كي يخبئ فيها ما لا يعرفه سواه، ماذا لو تحققت أمنية بروتون في أرض الواقع بحيث تصبح كل تصرفاتنا معرّضةَ للمراقبة والتنصت وأن ندخل في أرشيف التاريخ بفعل الطفرة التكنولوجية.

يقول نزار قباني: الجميع يمارس الحب في السرّ، أنا نقلت السرير للهواء الطلق

صورةٌ شاعريةٌ حتماً، لكن ما الذي يجعل هذا الشاعر يتخلى عن حاجته للخصوصية ليستعرض دقائق حياتهِ أمام الملأ، فمن المؤكد أن الرغبة بالخصوصية حاجةٌ أصيلة، لكن تتنازعها رغبةٌ أخرى وهي الاستعراضية أمام الملأ بعد تغليفها بالشعر والمجاز، عندما يمتلك الإنسان زمام الحكاية التي يرويها عن نفسه، سيصبحُ حينها راغباً كما أندرية بروتون بالعيش في بيتٍ من زجاج أو أن ينقل سريره للهواء الطلق أو ربما سيقول كفنانة صاعدة (ماعنديش حاجه أخبيها على الجمهور) ولو تعرض بروتون للعيون التي تحدق بهِ داخل بيته، وتروي الحكاية بطريقتها، فإنني أعتقد أنه سيرغب بشراء الستائر بأسرع وقت، وربما لو يعيش بروتون في عصرنا هذا، حيث بوادر اختفاء الخصوصية في أدق تفاصيلها للأبد، فلربما فضل أن يعيش في صومعة...

الحقيقة المرعبة هي ببساطة أنَّ الإنسان المعاصر بالإضافة لشعوره بوجود الضمير، أصبح لديهِ رفيق ثالث، وهو وجود العين التي تتفرج عليه.

سر اهتمامي بالشعور بالمراقبة الدائمة ـ وأعتقد أن الكثيرين يشاركونني الشعور ذاته وإن لم يعبروا عنه، ولا فرق إن كانوا في دولة ديمقراطية أم ديكتاتورية، محافظة أم ليبرالية، يكفي أن تكون الدولة متطورة أو مستقبلة للتطور، لتنتشر الكاميرات في كل الأرجاء وتسجّل كل دقائق حياتك ـ هو أنني سمعت خبراً فنياً في إذاعة مونتي كارلو، مفادهُ أنَّ فرقة غنائية بريطانية مبتدئة لم تجد ممولاً لتصوير أغنيتها فقررت تصوير أغنيتها أمام كاميرات البنوك والمتاجر ومن ثم أخذت الأرشيف من هناك لوجود قانون يعطيهم الحق بطلب الفيديو، وهكذا اكتمل التصوير من كاميرات مبعثرة في الشوارع

رصد الخصوصيات قديم جداً، مثلما فعل الذبياني عندما تغزل بزوجة أحد الملوك شعرياً إذ لمحها مصادفة، لكنها لن تكون مثل فضيحة أحد الفنانات في اليوتيوب، سيكون الأمر أكثر فظاعة، بالصوت والصورة، بجلاجل كما يقولون، فللتاريخ الآن أدوات أخرى تفتقر للمخيلة.

ها نحن إذاً، كأفراد، ضحايا المراقبة، من السلطات في الأغلب لكن ليس دائماً، فالسلطات التي تمتلك الأجهزة للمراقبة والتنصت، أصبحت هي أيضاً بفضل التطور عرضة للكشف والفضح، إنها حرب نشر الفضائح على جميع المستويات، السلطة تفضح معارضيها، المعارضون يفضحون السلطة، المجتمع يفضح بعضه بعضاً بما يشبع رغبة التلصص للكثيرين عبر شقوق اليوتيوب، ويبدو أنَّ برنامج الكاميرا الخفية يتخذ صيغاً أكثر فجاجة ولم يعد مضحكاً،

هل تريد بيتاً من الزجاج عزيزي بروتون؟!

احمد مكي

العدد 3598 - الجمعة 13 يوليو 2012م الموافق 23 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً