العدد 3598 - الجمعة 13 يوليو 2012م الموافق 23 شعبان 1433هـ

مساحة حرة - العمر الضائع... في الأتوبيس!

أحمد مصطفى الغر
أحمد مصطفى الغر

فى المواصلات المصرية عموماً وأتوبيسات النقل العام خصوصاً ضاعت ساعات طويلة من أعمارنا، قضينا أوقاتاً لو جمعت لصارت شهوراً طوال، بعضنا لو جمعت تلك الأوقات له لصارت سنوات من عمره مقسمة بين وسائل المواصلات بأنواعها المختلفة، وبالرغم من تعدد وسائل الركوب، إلا أن الأتوبيس يبقى صاحب النصيب الأكبر من الذكريات والأحداث وهذا يرجع إلى احتلاله النصيب الأكبر من وقت السفر فى حياة الكثيرين، فحتى وإن لم تكن أحد ركابه فهو يشعرك بمكانته كونه أحد أهم ملامح الشارع المصري، كما أن حجمه الكبير يخفظ له هيبته بين وسائل النقل الأخرى كالميكروباص والتاكسيات والملاكي، إذا انطلق فإنه يخرج من شكمانه دخاناً يعمي كل من حوله، هو أشبه ما يكون بأخطبوط يفرز مادته الحبرية السوداء فى مياه المحيط هرباً من أعدائه، أما إذا هدأ وتوقف فإن طابوراً طويلاً يتكون بسرعة خلفه.

من وجهة نظري، فإن سائقي الأتوبيس هم الأفضل، فكون الأتوبيس عهدة يجعل سائقه حذراً باستمرار ويقظاً طوال الوقت، بعضهم يمتاز بروح الجرأة فتجده يرواغ بالأتوبيس ويتنقل من حارة إلى أخرى، صحيح أنه يحدث موجة من الاضطراب فى السيارات من خلفه، إلا أن الأسوأ هى موجة الاضطراب التى تحدث بين «ركاب الطرقة» الواقفين بين صفي المقاعد!

أتوبيس النقل العام هو صورة مصغرة للوطن، يحوي أفراداً من كل الطبقات الاجتماعية تقريباً، الوضع مضطرب طوال الوقت، يشبهه البعض بالحياة عموماً، كون الناس ينزلون ويركبون في صورة مستمرة لا تتوقف، إنها متلازمة الميلاد والوفاة... وإن كان سائقو الأتوبيس يمتازون بالمهارة والقدرة على المراوغة، فإن ركاب الأتوبيس لا يقلون عنهم مهارة وبراعة فريدة سواء فى الركوب أو النزول... أما الركوب فهو أمر سهل ـ حتى وإن كان الأتوبيس ممتلئاً عن آخره - فإن ثمة من سيجذبك بمجرد دنوك من الباب، المشكلة تكمن فى حالة الاضطرار إلى الركض بجوار الأتوبيس إذا كان قد تحرك بالفعل، فى بعض الحالات يكون الركض جماعياً وكأنهم فى مارثون للجري من أجل يوم البيئة العالمي! وفى أحيان أخرى قد يصل الراكض إلى مبتغاه دون الركوب وهو ما يعنب ممارسة الرياضة وتوفير النقود التي كان سيدفعها نظير ركوبه!

بعد أن تتم عملية الصعود على متن الأتوبيس تكون مخيراً بين أمرين، إما أن تكون جزءاً من «علبة السلامون» الموجودة فى الطرقة فى انتظار أن يأتي الوقت الذى سينزل فيه أحد الجالسين تاركاً مكانه ليفوز به أحد الواقفين، أو أن تبقى على الباب... مع تلك الفئة التى سخّر أصحابها أنفسهم لجذب كل من يحاول الركوب، وفى الواقع الركوب على الباب له مزايا أخرى، منها: سهولة النزول، مشاهدة معالم الطريق عن قرب وكأنك تركب أتوبيساً سياحياً - تحديداً الدور الثاني المكشوف - كما فى الدول الأوروبية، وكذا مشاهدة كل ما تحتويه السيارات من حولك للدرجة التى يشعر بها سائقو السيارات الأخرى بأنك تجلس معهم فى سياراتهم، هذا بخلاف إمكانية الإعفاء من دفع ثمن تذكرة الركوب، إذ يصعب فى بعض الأحيان وصول الكمسري إلى تلك البقعة المميزة شديدة الازدحام والمسماة «ع الباب»!

إذا كنت فى أفضل أوقات حظك واستطعت الحصول على مقعد للجلوس، فاعلم أنك معرض للقيام منه فى أي لحظة... فقط بمجرد ركوب رجل عجوز أو سيدة طاعنة فى العمر، إذ إن أخلاقيات الأتوبيس المتوارثة عبر الأجيال تقتضي ترك مقعدك فى هذه الحالة (هذا بالإضافة إلى ما يأمرنا به الدين الحنيف من توقير الكبير ومساعدته)، كونك فى الداخل بشكل عام يعني انغماسك فى حوارات ونقاشات ساخنة يتشارك فيها معظم الركاب، جزء كبير منها يكون حول المشكلات اليومية ووضع البلد وما يحدث فيها، وليس مستبعداً أبداً أن تسمع سباباً وشتائم على بعض المسئولين وأصحاب المناصب العليا، لكن الغريب حقاً... هو ذلك الشعور اللاإرادي بالسعادة عندما تشاهد الأتوبيس عن بعد وتزداد تلك السعادة عندما تتمكن من الركوب، لكن الأغرب فى الواقع هو تواصل هذا الشعور عند النزول، إذ أن فترة الركوب تشكل للبعض كابوساً سرعان ما تخلص منه!

أحمد مصطفى الغر

جمهورية مصر العربية

العدد 3598 - الجمعة 13 يوليو 2012م الموافق 23 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً