العدد 3633 - الجمعة 17 أغسطس 2012م الموافق 29 رمضان 1433هـ

مساحة حرة - صوت متفائل قادم من الخلف!


كنت عائداً إلى المنزل وأنا أشعر بالضيق الشديد، حيناً بعد تعب اليوم الذي واجهته في ذاك اليوم، وحيناً نظراً لحرارة الجو التي لم تكن لتطاق، غابت الشمس تقريباً إلا من بقايا أشعة ترسلها على استحياء قبل المغيب، كانت الشعور تئن تحت وطأة الرطوبة المرتفعة فى ذاك اليوم، سائقو السيارات لا يطيق أحدهم الآخر ويريد كل منهم أن يسبق الآخر بأي شكل ليعبر الازدحام الذي كان موجوداً في الشارع الذي كنا نعبره ببطء شديد، الجو بصفة عامة يدعو الى الاكتئاب، في المقعد خلف الذي كنت أجلس عليه كان يجلس رجل مع ابنه الصغير، أحياناً يضطرك الصمت داخل الحافلة إلى ان تستمع إلى أيٍّ ما يتحدث من الركاب الآخرين، هو ليس تصنتاً بقدر ما هو غلبة الاستماع للأصوات البشرية التي تكسر أصوات أبواق السيارات الأخرى وأصوات محركاتها، كان الرجل ـ بغرابة شديدة ـ يحاول وصف ما هو موجود بالشارع من مبان وأشجار، طالباً من ابنه الصغير ان ينظر إلى تلك المباني المرتفعة الجميلة والأشجار الخضراء المنمقة على جانب الطريق، كنت أتعجب من كلامه، فعن أي جمال للمباني كان يتحدث هذا الرجل!
كان الرجل دائماً ما يعقد مقارنة بين ما هو موجود في شوارع المدينة التي كنا نسير فيها وبين ما قد يجد الطفل اذا ما أراد الذهاب إلى بيت خاله "فلان" في القرية حيث توجد والدته، ألان قد فهمت قليلاً وحاولت استنباط شيء يعينني على فهم تفسير الرجل الغريب ورؤيته المغايرة للأماكن والمناطق التي كنا نشاهدها، يبدو ان الأبوين منفصلان والأمر يتعلق بيوم الحضانة وأشياء من هذا القبيل، شعرت بالحزن لشأن الطفل، وأشفقت على الأب، لكن سرعان ما عاد الأب كي يستمر في وصفه للسيارات التي تسير في الشوارع وأصوات أبواقها!، وافتقار القرية الريفية إلى كل ذلك، المحلات، اليافطات الدعائية ذات الألوان والاضاءة الغريبة، الأرصفة.. الناس.. كل شيء.. كل شيء.. لم يدع الرجل شيئاً إلا وأثنى عليه ومدحه عند وصفه!
نزلت مع بعض الركاب لتقديم العون والتحقق من سلامة الطفلين، والحمد لله كانا بخير.. لولا العناية الالهية وتيقظ السائق الذى ضغط على المكابح فى أخر لحظة، عدنا إلى مقاعدنا، بدأ الصامتون من الركاب في الحديث عن ما حدث وتذكر البعض منهم مواقف مشابهة حدثت له في أسفار أخرى قديمة وبدأ يشارك الآخرين بها في محاولة منهم كي لا يشعروا بالوقت الذي بدا وكأنه توقف في ذاك اليوم، فعقارب الساعة تمر ببطء شديد، يقولون إن الكتاب خير رفيق في السفر، لكنني أعتقد أن رفقاء السفر خير منه سواء كنت تعرفهم أو لا، وخصوصاً إذا كانوا ممن يمتلكون من المخزون القصصي ما يكفي لشغل وقت الرحلة، فيجعلونك تعيش معهم القصة بخيالك.

* هامش: ما فائدة طرقات الدنيا المعبدة إذا كان حذاؤك ضيقاً؟!، وما فائدة الأضواء من حولك إذا كنت لا تنزع نظارتك السوداء من على عينيك؟!، لمن تسطع الشمس كل صباح إذا كنت لا تفتح نوافذ غرفتك؟!، ولمن تشدو عصافير الصباح إذا كنت تسد أذنيك طوال الوقت؟!، لولا الأمل والتفاؤل.. ربما لم أكن لأستطيع كتابة هذه السطور.. وربما لم يكن بمقدورك ـ أنت ـ أن تقرأها الآن.

أحمد مصطفى الغر
جمهورية مصر العربية
 

العدد 3633 - الجمعة 17 أغسطس 2012م الموافق 29 رمضان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً