العدد 4336 - الإثنين 21 يوليو 2014م الموافق 23 رمضان 1435هـ

وفاة طفل بـ”السلمانية” هزتني من الداخل... وغيرت مساري باتجاه الطب النفسي

رفضت الجنسية البريطانية من أجل البحرين... الحداد لـ” الوسط الطبي ”:

غني عن القول أن البحرين تمتلك تاريخاً عريقاً على مستوى المنطقة، وتمتلك في سجلها ريادة على مختلف المجالات والأصعدة، إلا أن الحقيقة “المؤلمة” التي لا مفر منها، أن السواد الأعظم من تفاصيل هذا التاريخ وهذه الريادة لا تزال حبيسة صدور صانعوها.

طبياً، يحق للبحرين أن تفخر برصيدها الثري والممتد لسنوات وسنوات، ويحق لها أن تطالب أبناءها بأن «يسارعوا» لاستخراج ما في الصدور، والعمل على توثيق تاريخها وحفظه من الضياع.

واستكمالاً لمشروعها التوثيقي «الذاكرة الطبية»، التقت «الوسط الطبي» الاستشاري النفسي محمد خليل الحداد، الذي عُرضت عليه الجنسية البريطانية فلم يتردد في رفضها، وسط شعور قومي جارف كان مهيمناً في ذلك الوقت.

ويتطرق الحداد، ابن فريق الحطب بالمنامة، إلى جملة من محطات مشواره مع الطب النفسي، بدءاً من السر في اتجاهه لدراسة هذا التخصص بعد عمله طبيباً عاماً في مستشفى السلمانية لمدة 10 أشهر فقط، وظروف الدراسة التي أخذت منه 4 أعوام ونصف في جامعة أدنبرة في بريطانيا، وكيف شاهد الفارق بين وضع الطب النفسي في البحرين وبريطانيا، وهو فارق يصفه الحداد بـ «الشاسع، وكالفرق بين السماء والأرض»...

وفيما يلي نص اللقاء:

لنبدأ لقاءنا من خلال التعرف على ظروف وأسباب اتجاهك لدراسة الطب، ونحن نعلم أن بداياتك كانت مع الطب العام...

ميولي هي في الواقع أدبية، وتشهد على ذلك عشرات الكتب التي بحوزتي، إلا أن انتقالي لدراسة تخصص علمي كانت له ظروفه، وهي ظروف يتداخل فيها القدر إلى حد ما.

ففي المدرسة الثانوية (هكذا كان اسمها)، ومديرها آنذاك عبدالملك الحمر، اخترت دراسة التخصص الأدبي، فإذا بالمدير ينهرني ويجبرني على الانتقال للتخصص العلمي، على رغم أن ميولي لا علاقة لها بهذا التخصص.

وحين وصلت لمرحلة التوجيهي كان لزاماً علينا اختيار التخصص، فاخترت الاقتصاد والأدب الإنجليزي، ليتدخل المدير مرة أخرى ويشطب كل ذلك، ويحدد عوضاً عن ذلك الطب والهندسة، وكان يتحدث مع والدي عن اختياراتي، على اعتبار أنني كنت من الأوائل، ووقتها كان الاتجاه السائد أن الأوائل يجب أن يتجهوا لدراسة تخصصين لا ثالث لهما؛ الطب أو الهندسة.

وبهذا اتجهت لدراسة الطب في جامعة القاهرة، وعدت في العام 1976، بعد أن استغرقت مني الدراسة سبعة أعوام كاملة لأعمل طبيباً عاماً في مستشفى السلمانية، وتم تدويرنا على عدد من المراكز الصحية في مختلف مناطق البحرين، من بينها كرزكان والنبيه صالح والبلاد القديم.

أتذكر في هذا الصدد، ظروف العمل آنذاك، ففي قرية كرزكان مثلاً كان المركز الذي نعمل فيه عبارة عن غرفة لا تتعدى مساحتها بضعة أمتار، وكنت أنا والممرضة نستقبل المرضى الذين كانوا ينتظرون في الخارج تحت لهيب أشعة الشمس، كانت الظروف صعبة جداً وكنا نذهب للمركز مرة واحدة أسبوعياً، وبسبب ذلك كانت إحدى السيدات تأخذ بعضاً من كل دواء لتصرفه للأهالي فيما تبقى من أيام.

وفي قرية النبيه صالح، كان عملنا بالتعاون مع الهلال الأحمر، والذي كان يوفر لنا الأدوية، حيث كنت وبصحبتي ممرضتين، ننتقل للقرية مرة أو مرتين أسبوعياً عن طريق استخدام القارب من جانب قرية أم الحصم، متحدين بذلك خطورة البحر وأمواجه، وكنا نعمل من خلال المدرسة الموجودة في القرية.

كذلك عملت في مركز صحي في البلاد القديم، وفي ظل الأعداد الكبيرة للمراجعين، كنا نمكث فوق فترة عملنا من أجل استيعاب كل هذا العدد، من دون أي مقابل، وهو أمر كان متناغماً وطبيعياً في ظل الشعور القومي القوي الذي كان مهيمناً في ذلك الوقت.

بجانب ذلك، كنا نذهب لبيوت بعض المرضى خارج أوقات عملنا، وكان ذلك محل إشادة من الوزير علي فخرو الذي كان يقول «أقدر فيك روحك ورغبتك في خدمة الناس»، ومن المهم التأكيد أن ذلك شكّل حالة عامة في البلد، فالغالبية وقتها كانت تريد عمل شيء وكان الحماس شديداً.

من خلال هذه التجارب وهذه المعاينة المباشرة؟ ما طبيعة الأمراض المنتشرة آنذاك في القرى؟ وما الحالات التي كانت تردكم؟

- كنا نواجه حالات كثيرة مصابة بأمراض العين، ويمكن القولإ كانت تمثل 99.9% من الأمراض التي كانت ترد إلينا، إلى جانب أمراض التراخوما، أبوصفار، التيتانوس، إضافة لانتشار الديدان بسبب الطبيعة الزراعية للبيئة البحرينية والتي كانت تتسبب في حدوث إصابات مختلفة، بما في ذلك الإصابة في العين بسعف النخيل أو السقوط أرضاً من على النخلة...

هل حصلت هذه المراكز على إقبال وقبول في ذلك الوقت من الأهالي؟

نعم، وكانوا يلجأون كذلك للحواج. وبصورة عامة، يمكننا اعتبار ذلك مؤشراً على وعي البحرينيين في ذلك الوقت، وعلى تقدم البحرين كبلد مقارنة ببقية دول الخليج.

وماذا عن اتجاهك للطب النفسي؟ كيف ومتى كان ذلك؟

وراء ذلك حكاية شهدها مستشفى السلمانية الطبي، ففي فترة عملي في المستشفى شاء القدر أن يتوفى طفل لم يتجاوز عمره ست سنوات، وكان الحدث مؤثراً للغاية، فوالداه انتظرا 15 عاماً ليرزقا بطفلهما الوحيد، ويشاء الله سبحانه وتعالى أن يتوفى، ووسط هذه التفاصيل التراجيدية كان والد الطفل ينتقل من طبيب إلى آخر وهو يمسك بأيدينا ويطلب منا وهو يبكي ويقول «أحيوه... أحيوه... أعطوا ابني إبرة... اعملوا له شيئاً».

وحين وصل لي كانت حالته صعبة جداً، كان يبكي ويبكيني، وعلى مستوى إنساني لم أكن على دراية بما يتوجب عليّ فعله، لأقرر على إثر ذلك أن أتوجه لدراسة كيفية التعامل مع مثل هذه الحالات، فكان تخصص الطب النفسي، ووقتها حاول وزير الصحة الأسبق علي فخرو، أن يثنيني عن ذلك من خلال عرضه دراسة الصحة العامة في موسكو، لكنني رفضت وكنت مصمماً على دراسة الطب النفسي.

ويعود ذلك كما أشرت لحادثة الطفل، التي تركت تأثيراً عميقاً بداخلي، ولاتزال صورتها حاضرة في ذهني، فقد كنت وسط مناشدة والده مكتوف اليدين، وهو أمر هزني من الداخل، ودفعني للتفكير في دراسة تخصص له علاقة بالنفس، فتوجهت لمستشفى الطب النفسي.

بوصفك شاهد عيان على أحوال مستشفى الطب النفسي في بدايات عمله، هل لك أن تحدثنا عن تفاصيل ذلك؟

في تلك الفترة كان رئيس المستشفى عماد فريد، وهو مصري الجنسية، وإليه يعود الفضل في تغيير اسم المستشفى من دار المجانين إلى دار الأمراض النفسية والعصبية.

ما يمكن قوله في هذا السياق، إن المرضى كانوا يعاملون تماماً كالمجانين، إذ كان غالبيتهم عراة، وكانوا يتبادلون الضرب والصراخ مع الممرضين، والعلاج الذي وفر لهم كان بدائياً يعود للعصور الوسطى، وحين دخلت المستشفى انتابني الذعر من هول ما رأيت.

هل يمكن إرجاع ذلك إلى أن الفئة التي ترد المستشفى من المرضى تعاني من اختلال عقلي؟

كلا، بل كانوا السبب في تدهور حالتهم يعود لتعطلهم في البيت، وحتى يجدوا الفرصة للوصول للمستشفى تكون حالتهم قد ساءت كثيراً، إضافة لذلك، فإن الأدوية المهدئة الخاصة بالمرضى لم تخترع إلا في خمسينات القرن الماضي، ومن جلبها للبحرين الطبيب الإنجليزي بتلر.

كانوا قبل ذلك، يعطون الكهرباء للمريض من دون «بنج»، وهو أمر كان يتسبب في مشاكل كثيرة للمرضى، إذ كانوا يمددون أرضاَ وتضع في فم كل منهم قطعة خشب، ويمسك بكل مريض قرابة 10 أشخاص من أجل إعطائه «شوط» كهرباء، وكان ذلك سبباً لإصابة عدد منهم بكسور في الأيدي أو الأرجل.

علاوة على ذلك، كان المستشفى يعطي حقن الأنسولين للمرضى، ما يؤدي لهبوط شديد للسكر، قد يصل إلى الإصابة بالإغماء، فكان المرضى يمددون على الأرض، قرابة 25 مريضاً، ليتم حقنهم تباعاً، وكانوا يصابون على إثر ذلك برعشة قوية، وسط أجواء مريعة.

لم تحدثنا عن فترة دراستك للطب النفسي؟ في أي جامعة كان ذلك؟

بعد 10 أشهر من عودتي من مصر، وعملي في مستشفى السلمانية الطبي، تقدمت بطلب للدراسة في بريطانيا عبر مكتب مخصص لذلك، وبالفعل حصلت على فرصة للدراسة في جامعة أدنبرة، ومن طرائف الأمور أنني في وقتها كنت أجهل أي شيء عن مدينة أدنبرة، حتى أنني كنت ألفظها خطأً (أدنبرك).

وحين غادرت لبريطانيا في العام 1972، وفقت في الحصول على وظيفة طبيب، وكانت ضرورية بالنسبة لي، بل من دونها لم يكن لي أن أتمكن من الاستمرار في الدراسة هناك، إذ لم يكن بحوزتي سوى 240 ديناراً، ووزارة الصحة كانت تعطينا 40 ديناراً شهرياً كمساعدة، وهو مبلغ متواضع ليس بوسعه أن يفي بمتطلبات العيش في بريطانيا.

وما أود الإشارة إليه، أنني وقفت على الفارق الكبير بين وضع المرضى النفسيين في كل من بريطانيا والبحرين، ففي ظل الأوضاع الصعبة التي كان المرضى يعانوها في البحرين، إلى الدرجة التي كانت تستخدم فيها العصي لضربهم، بل إن المريض في حال أظهر عنفاً يتم وضعه في زنزانة انفرادية...

وعلى النقيض من ذلك، فوجئت بما شاهدته في أدنبرة، حيث المرضى يرتدي كل منهم ربطة عنق، ولكل منهم خزانة خاصة في غرفته، ولا يأكلون إلا بشوكة وسكين في مطعم مخصص لهم، بل إن أحدهم تمكن في العام نفسه من الحصول على بطولة اسكتلندا في الشطرنج، من دون أن يمنعه مرضه من تحقيق ذلك.

اكتشفت بسرعة وعلى إثر ذلك، أن المشكلة ليست في مرضانا، بل في العلاج المقدم لهم، فهؤلاء مرضى وأولئك مرضى، لكن الافتقار للأطباء الواعين والجيدين، ولنظام خاص بالتمريض، أحدث الفارق. وأستطيع القول إنني أصبت بصدمة حضارية حين عاينت الفرق بأم عيني.

ولم يستمر حال المستشفى على ما كان عليه، فقد تم تطويره لاحقاً، وحظي بجملة تعديلات في عقد السبعينات من القرن الماضي، بما في ذلك إنشاء عيادة تخصصية لعلاج الحالات النفسية لدى الأطفال والمراهقين سنة 1975، وإنشاء وحدة لعلاج المرضى ومتابعتهم خارج المستشفى، سميت وحدة العلاج في المجتمع سنة 1979.

إلى جانب ذلك، تم وضع برنامج تعليم اللغة العربية للممرضين الأجانب من أجل تسهيل التخاطب والتفاهم بينهم وبين المرضى البحرينيين، وتوجت فترة التطور التي شهدها المستشفى نهاية السبعينات بافتتاح وحدة ابن النفيس في العام 1979.

وتواصلت عملية تطوير المستشفى، حيث شهد عقد التسعينات كثيراً من التغيرات النوعية، وشمل ذلك اعتماد المستشفى مركزاً تدريبياً وتعليمياً معترفاً به من جهات علمية متقدمة في بريطانيا وأيرلندا.

حدّثنا عن تجربتك الدراسية في بريطانيا، كيف كانت؟

كانت حافلة بالتحدي والنجاح، فأنا ثاني عربي يدرس في جامعة أدنبرة، وأتذكر أن عشقي للثقافة والمسرح والموسيقى الكلاسيكية كان محط استغراب من قبل مسئولي الجامعة على اعتبار أنني قادم من بلاد عربية، وكانوا حين يروني يقولون: هذا هو العربي الذي يعرف في المسرح، والموسيقى، وكان لذلك دور في اختياري للوظيفة.

ولم تكن فترة تواجدي في بريطانيا خالية من التحديات، فمع جهل البريطانيين الكبير عن البلدان العربية، وقعت حرب 73، وأظهر ذلك الموقف العنصري ضد العرب، إلى الدرجة التي دفعتهم للكتابة على المطاعم «ممنوع دخول العرب والكلاب».

وعلى رغم كل ذلك، إلا أني وُفقت في الوظيفة والدارسة، وأتذكر أننا كنا 11 شخصاً في الدراسات العليا وكنت العربي الوحيد بينهم، وتمكنت من الحصول على درجة الزمالة البريطانية، وكانت لي الأسبقية البحرينية في ذلك.

كم استغرقت فترة دراستك في أدنبرة؟

-تطلبت مني مرحلة الدراسة في بريطانيا نحو 4 سنوات ونصف، وهي مدة قصيرة نسبياً، واللافت هو مقدار التشجيع الذي يوجه للدارسين هناك، فبالتزامن ما بين دراستي وعملي في المستشفى، كنت أحصل على 3 أيام أسبوعياً للذهاب للجامعة بدءاً من فترة الظهر وحتى المساء مع احتساب الراتب، وهي لفتة يجب التوقف عندها، وهي تظهر مدى الدعم الذي كان الطلبة يتحصلون عليه في سبيل تطوير ذواتهم وتطوير أعمالهم.

وبالمناسبة، فقد عرض عليّ الحصول على جواز بريطاني فرفضت، وكان دافعي في ذلك أن لدي التزاماً تجاه بلدي، على اعتبار أن حصولي على الجنسية البريطانية سيعني استقراراً هناك وعدم عودة للبحرين، وكنت أتساءل «من لخدمة البلد، في حال قمت أنا وغيري بالعمل في الخارج؟».

في ظل الظروف السائدة، إلى أي حد يمكننا وصف عرض الجواز البريطاني بالمغري؟

هو كذلك، وأقسم بالله أن الفاصل بيني وبين الحصول على الجواز البريطاني كان توقيعاً ليس أكثر، وعلى رغم الصراع بين الوضع المتقدم في بريطانيا والوضع البدائي في البحرين، إلا أن الغلبة كانت للشعور القومي والوطني ولخدمة البلد، وانتماؤك لبلدك هو الغالب، ولو كان هذا البلد صحراء.

والطريف الذي يمكن الحديث عنه هنا، أنني اكتشفت أن من كان لديه جواز بريطاني يحصل على زيادة في الراتب بمقدار 60 في المئة، والهندي والمصري يحصلان على 40 في المئة، فيما الأميركي يحصل ضعف الراتب، ورغم أنني أصبحت رئيساً للمستشفى في السنة الثانية من عملي، إلا أنني ولكوني بحرينياً كنت أتقاضى راتباً أقل ممّا يتقاضاه مَن هو دوني.

نعلم أن لديك تجارب في الكتابة والتأليف، فهل كان لتوثيق سيرتك الطبية نصيبه من ذلك؟

التجربة مع الكتاب متعددة، من بينها كتاب مشترك بيني وبين رئيس مستشفى الطب النفسي عادل العوفي ويحمل عنوان «تاريخ الطب النفسي في البحرين 1932 - 2000»، وبجانبه حالياً عشرات الكتب، ومن المقرر أنْ يضاف لها كتابان آخران؛ الأول تحت عنوان «حديث الروح»، والثاني سيكون عبارة عن جزء ثانٍ من كتاب «الأوراق المتناثرة»، وهذا الآخير يشتمل على المحاضرات التي قدمتها طوال سنوات في مواقع مختلفة، ويمتاز بتنوع موضوعاته وتباين أساليب تناولها تبعاً للمكان والجمهور الذي طُرحت عليه في وقتها.

العدد 4336 - الإثنين 21 يوليو 2014م الموافق 23 رمضان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً